وليد مرمر
لا يسع المتتبع لمواقف وتغريدات قائد «القوات اللبنانية»، سمير جعجع، الأخيرة إلا أن يستحضر المثل السوري القائل: رضينا فيك والمخطة على كمّك، لا عجبناك ولا عجبنا أمك»! فسمير جعجع مُدان جنائياً من محكمة لبنانية بجرائم تفجير وقتل، ولقد حُكم عليه بالسجن مدى الحياة ولكنه أطلق سراحه بعد 11 سنة نتيجة عفو نيابي. ويعلم كل من له أدنى اطلاع على أحداث الحرب الأهلية، الفظائع التي ارتكبتها «القوات اللبنانية» بقيادة «الحكيم» بحق المسيحيين والمسلمين على السواء.
غير أن تقاطع سياسَتَيْ واشنطن والرياض في لبنان على احتضان «القوات اللبنانية» قد أعطيا زخماً ملحوظاً لمشروع سمير جعجع الفتنوي بحيث استطاعت «القوات» من حصد 19 مقعداً نيابياً في الانتخابات الأخيرة. وأدخل هذا التقدم النسبي في حجم كتلة «القوات»، قائدها في حالة من النشوة يبدو أنه لم يصحُ منها بعد، حتى أمسى حاله كحال الضفدع الذي ظن نفسه ثوراً! ولا عجب فسمير جعجع كان قد أخبر السفيرة الأميركية السابقة ميشيل سيسون –حسب وثائق «ويكيليكس»– «أن لديه 10 آلاف مقاتل جاهزين لقتال «حزب الله» وهم ربما يحتاجون إلى التزود بالأسلحة».
ولا شك أن الدعم المالي السعودي، قد مهد لتقدم «القوات» في الانتخابات الأخيرة. فقد أشار السفير السعودي السابق في لبنان علي عواض العسيري في إحدى وثائق «ويكيليكس» إلى «أن القوات اللبنانية هي القوة الحقيقية التي يُعوّل عليها لردع حزب الله ومَن وراءه في لبنان»، موصياً «بتقديم مساعدة مالية لقائد القوات تفي بمتطلّباته ولاسيما في ضوء مواقف السيد سمير جعجع الموالية للمملكة والمدافعة عن توجهاتها».
ورغم تاريخه الأسود وحاضره الملتبس، فإن حجم جعجع النيابي بات يحتّم على خصومه الاعتراف به ودعوته إلى الحوار بل وحتى محاولة إشراكه في الحكومتين الحالية والمرتقبة. ولكن «رضا» فريق الممانعة بمحاورة سمير جعجع كنظير سياسي لم يقابله «رضا» مماثل من سيد معراب. إذ اجتمعت عوامل عديدة –كما أسلفنا– كالدعم الأميركي–السعودي ومضاعفة كتلته النيابية إضافة إلى آلاف المقاتلين المزعومين، لتُدخل قائد «القوات» في حالة من جنون العظمة حتى أصبح لا يتوانى عن التحريض والتصعيد في خطابه السياسي بتعنت واضح. فمثلاً، كان من مواقفه قبل الانتخابات: «كل من يتحالف مع حزب الله في الانتخابات النيابية يتحالف مع قتلة رفيق الحريري وقتلة ثورة 14 آذار وصولاً إلى قتلة شهداء جريمة انفجار مرفأ بيروت». وعن رئيس الجمهورية المرتقب، قال جعجع: «لمن يقول لا نريد رئيس تحد، نؤكد له أننا بأمس الحاجة إلى هذا الرئيس… إنما إذا لم نأت برئيس يتحدى سياسات جبران باسيل، وحزب الله فكيف سيتم الإنقاذ؟».
وعن «حزب الله» قال جعجع: «من المستحيل قبول مرشح للرئاسة يطرحه «حزب الله»، فالحزب لن يطرح مرشحاً يخالف مصالحه كتنظيم عسكري سياسي والتي تتعارض مع مصالح الشعب اللبناني». وتمنى جعجع على الحزب أن «يتوقف عن مصادرة الدولة وقراراتها وسياساتها الخارجية والتحالف مع الفاسدين لتغطية وضعيته». وأشار إلى أن «حزب الله وحلفاءه أشبه بمغارة علي بابا». وأقفل طريق التفاهم مع «من لديهم ممارستهم وعقائدهم وسياساتهم ومشروعهم وطريقتهم…»، وبالمختصر: «من المستحيل أن نتمكن من التوافق مع الفريق الآخر على رئيس للجمهورية».
شماعات
إن الاستعمال المفرط لكلمات «السيادة» و«الشرعية» وغيرها من الكليشيهات المبتذلة من القوى اللبنانية التي تدور في فلك الانهزام العربي أو ما كان يعرف سابقاً بقوى 14 آذار تخطى كل المستويات وأصبح ممجوجاً من معظم اللبنانيين. فالسيادة أضحت شماعة تُعَلق عليها كل الأحقاد والمشاريع الفتنوية. وباسم السيادة تُتهم طائفة بقضها وقضيضها بالعمالة والتبعية. وباسم السيادة يصبح السلاح الذي هزم المشروعَين الصهيوني والتكفيري سلاحاً خارجاً على الشرعية. وباسم السيادة تُصنف مناطق لبنانية يرفرف فوقها العلم اللبناني بأنها تابعة لـ«دويلة» أو أنها «محتلة»، وهلم جرا.
والشرعية هي الأخرى مفهوم نسبي يتأرجح تبعاً للمصالح الخاصة! فأين كانت الشرعية اللبنانية عام 1987 عندما أدخل جعجع 16 ألف برميل من إيطاليا محملة بالنفايات الصناعية السامة وتمّ رميها ودفنها وحرقها في الجبال والوديان والبحر سيما في مناطق كسروان مقابل 22 مليون دولار؟ وذلك عندما كانت قواته مسيطرة سيطرة تامة على الحوض الخامس في مرفأ بيروت وذلك حسب الوثائق القضائية.
وأين كانت الشرعية الدولية عندما امتنع جعجع عن تسليم سلاحه إلى الجيش وقرر بيعه عام 1994 إلى صربيا ضارباً بعرض الحائط قرارات مجلس الأمن التي فرضت حظراً على تصدير السلاح لكافة مناطق يوغوسلافيا السابقة وذلك بعد ارتكاب القوات الصربية لعمليات الإبادة الجماعية بحق مسلمي البوسنة؟.
فهلّا قام على الأقل «ناسك معراب» –كما أسماه البطريرك الراعي– بالاعتذار من مسلمي البوسنة والهرسك لِمَدّه ارهابيي الصرب بالسلاح لتنفيذ التطهير العرقي ضدهم؟.
لا للحوار؟
من المعروف في الأنظمة البرلمانية أن الدول إذا مرت بأزمات خانقة، فإن أحد الحلول الناجعة يكون بتأليف حكومة وحدة وطنية تدير الأزمة بعيداً عن الاصطفافات الحزبية والاشتباك السياسي. فعندما يكون الوطن في خطر وجودي تصبح التجاذبات السياسية ضيقة الأفق أشبه بخيانة عظمى. فهي أشبه بجدال على متن سفينة آخذة بالغرق بين ربانها وطاقمها وعمال المطبخ حول اختيار طبق اليوم! فالأزمات التي مر بها لبنان في السنوات الثلاث الأخيرة منذ المصائب التي جلبتها «الثورة»، إلى تبخر أموال المودعين، فانفجار المرفأ وغيرها من استحقاقات ترسيم الحدود البحرية إلى مشكلة النزوح السوري، هي أزمات تهدد مصير وطن وتنذر بفرط عقده الاجتماعي.
وبالنظر إلى فسيفساء الأحزاب السياسية في لبنان، فرغم التباين الواسع بين «الممانعة» من جهة و«تيار المستقبل» مع «الحزب التقدمي» من جهة أخرى إلا أنهم انضووا جميعاً تحت لواء الحكومة الحالية متناسين خلافاتهم قدر الإمكان لأن مهمة إنقاذ الوطن كانت لأولوية. فمن هي القوى التي رفضت المشاركة في الحكومة وقررت رمي النبال عليها من الخارج؟ إنها «القوات اللبنانية»!
ولو سلمنا جدلاً بأن للقوات أسبابها لعدم المشاركة في الحكومة، فما سر رفضها إذن للحوار مع «حزب الله» جملة وتفصيلاً، ومهما ازدادت الأزمات تعقيداً؟ حبذا لو يتعلم القواتيون من حلفائهم القدامى في الكيان الصهيوني، فيتعظون من «اجتماعهم على باطلهم فيم يصرون».
ففي خضم العدوان الأخير الذي شنته إسرائيل على غزة، كان لافتاً اجتماع رئيس الحكومة الإسرائيلية يائير لبيد مع زعيم المعارضة بنيامين نتنياهو في مقر وزارة الأمن في تل أبيب رغم اشتباكهم السياسي العنيف. وبعد الاجتماع قال نتنياهو: «نحن في ذروة المعركة وأنا بالطبع أمنح دعماً كاملاً للحكومة والجيش الإسرائيلي وقوات الأمن وأدعم صمود سكان الجنوب، لقد تلقيت تقريراً مفصلاً واستمعت باهتمام بالغ إلى ما قيل وأعطيت عدة نصائح من خبرتي حول مجالات مختلفة وأعتقد أن هذه النصائح يمكن أن تكون ناجعة جداً لأمن إسرائيل».
قد لا يصدق المرء أن المتحدث بهذه الإيجابية المفعمة بالدعم والثقة للحكومة هو زعيم المعارضة! ولكن عندما يكون «أمن إسرائيل في خطر» –كما زعمت الحكومة الإسرائيلية إبان العدوان على غزة– فإن من دأب الإسرائيليين الترفع عن خلافاتهم مهما كانت عميقة، لمصلحة الكيان!
أما في لبنان فيبدو جلياً أن هناك تلازماً بين اشتداد الأخطار وادلهمام الخطوب، مع تصاعد لهجة الخطاب «القواتي» الذي لا يفتأ يصوب على شريحة أساسية ومؤسسة للكيان اللبناني وسباقة للدفاع عنه في مواجهة المعتدين.
Leave a Reply