محمد العزير
عن الإمام علي بن أبي طالب أنه قال «ليس من طلب الحق فأخطأه كمن طلب الباطل فأدركه». على ذمة الرواة أن أبا الحسن قال هذه الحكمة الأزلية وهو يواجه في لحظة مصيرية أول سيف يرتفع على الإسلام باسم القرآن من جهة (الخوارج)، وأول سيف يرفع القرآن في معركة (معاوية)، وتلك مفارقة من النوع الذي يصنع التاريخ، مفارقة أن يكون على أول فتى مسلم، ربيب النبي محمد وابن عمه وصهره وكاتب وحيه أن يُنازع بالتنزيل، وأن يكون على الذي واجه قريشاًً باسم الإسلام قبل سن بلوغ أن ينازع الخلافة مع الطلقاء الذين أسلموا بسيفه. سيكون على الإسلام أن يتأرجح بين هذين الحدين منذ ذلك الزمن بأشكال وأوضاع مختلفة.
لا ينطلق هذا المقال من أساس ديني ولا يبغي الدخول في نقاش عن العقيدة أو الشريعة ولا يدعي كاتبه معرفة بالفقه والأصول أو الأحكام، لكن طبيعة الموضوع تجعله شأناً عاماً يتصل بمصالح واهتمامات ومستقبل العرب الأميركيين من كافة الأديان والمعتقدات، ولا يقتصر أثره على المؤمنين من المسلمين فقط، فالذين ينتدبون أنفسهم لدور عام في مسألة تتصل بهوية وكيان الجماعة التي ينتمون إليها، يؤثر دورهم على من ينتمون إليهم سواء أرادوا ذلك أم لا، خصوصاً في مجتمع يعطي وزناً لمعطيات الانتماء الإثنية والدينية والعرقية ويخلط بينها أحياناً مثل المجتمع الأميركي حيث لا يقف الأمر عند التعريف الذاتي لفرد أو جماعة بل تكون نظرة المحيط إليهما مؤثرة كثيراً في التعامل معهما.
من الوجوه الإسلامية البارزة، وخصوصاً على الإنترنت والتواصل الاجتماعي مسلم أميركي يطلق على نفسه اسم دانيال حقيقتجو Daniel Haqiqatjou، واسم العائلة هنا مركب ومستعار للتأكيد على الدورـ فهذا الرجل المولود في ولاية تكساس لعائلة من أصول إيرانية اسمه دانيال جو ويقول معارفه أنه حين بدأ نشاطه الإسلامي أراد أن يعرّب اسمه الأصلي فأضاف إليه كلمة «حقيقة» (من الواضح سبب اختياره لهذه الكلمة دون سواها) وكتبها كما تلفظ بالتاء المرسلة حتى يعطيه نبرة عربية تخفف من بياضه المتلازم مع بياض سحنته الأوروبية غير القابلة للتعديل ولا لإنبات لحية كثة يفضلها رجال الدين ويعتبر هو نفسه، إطلاقها من الفرائض على المسلم، وعلى الرغم من رمزية الإسم والطلة، فهما ليسا الأهم في الموضوع، الأهم منهما بكثير، مبادئه وآراؤه ومواقفه ودوره، خصوصاً وأن لديه عشرات الآلاف من المتابعين والمؤيدين في أميركا والعالم.
يعتمد دانيال في التعريف عن نفسه لازمتين دائمتين؛ مولده في تكساس ودراسته في «جامعة هارفرد» المرموقة، ويشكل مع زوجته العربية الأميركية المصرية الأصل والمولد «أم خالد» التي تلتزم النقاب ولا تستخدم اسمها الأول (ربما يكون ذلك من المحرمات أو المكروهات على الأقل) ثنائياً فعالاً سواء على منصات التواصل الاجتماعي أو موقع المؤسسة التبشيرية الثقافية التي تحمل اسم «ألسنا على الحق» أو مؤسسة الخدمات العائلية التي تقدم إرشادات حول الزواج الشرعي وتربية الأطفال والمدرسة البيتية للعائلات التي لا تريد إرسال أطفالها إلى المدارس العامة.
يجمع دانيال بين الحنبلية فقهاً و«الداوبندية» الحنفية (التي تأوي تحت مظلتها حركة طالبان الأفغانية وشقيقتيها طالبان الباكستانية وحراس الصحابة) تنظيماً، والإخوانية المصرية تناغماً، ويدعو إلى نسخة متعصبة من الإسلام تكاد تكون عسيرة على مجتمعات أصولية متشددة، فهو يعادي الحداثة بمجملها ويعتبر الانفتاح الجزئي الذي شهدته معظم المجتمعات الإسلامية في القرن العشرين وما ترتب عليه من مفاهيم جديدة «حماقة وقصر نظر وسطحية»، كذلك يهاجم الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والدول الموقعة عليه ويعتبر مبادئه موجهة ضد الدين ككل وليس الإسلام وحده، ويطعن في مفاهيم المساواة بين الجنسين وتمكين المرأة أو حتى تعليمها، ولا يرى ضرورة لتخصصها في أي مجال خارج إطار الاهتمام بزوجها وأطفالها.
يستنجد دانيال بزوجته «أم خالد» لدعمه عند الحديث عن المرأة في دعوته إلى قوامة الرجل على المرأة ووجوب طاعتها له، فيرددان أن لا ضرورة للتعليم العالي للمرأة، حيث تقول الزوجة (وهي أيضاً خريجة هارفرد) أن تعليمها العالي، الذي تتباهى به في مواقعها ومواقع مؤسساتها الإرشادية، لم يكن ضرورياً في الأساس وأن زوجها أقنعها بما لا يقبل مجالاً للشك أن دراستها الجامعية لا تقدم ولا تؤخر. الأنكى هو دعمها له عندما يسوّغ ضرب المرأة (التي يخشى نشازها) من قبل زوجها، حيث يعتبر أن للزوج على زوجته سلطة تشبه سلطة الدولة على الشعب وكما تتولى الدولة معاقبة الذي يخالف من الناس، دور الزوج أن يعاقب زوجته… التي إن خيرت بمن يعاقبها ستختار طبعاً زوجها «الذي تحبه وتحترمه»، كذلك الحديث عن ضرورة طاعة المرأة للرجل عموماً وخصوصاً عندما يطلبها إلى الفراش، وضرورة مضاعفة المرأة لعبادتها لأن هناك أحاديث تقول إن أكثر أهل النار من النساء لأنهن يكفرن بنعمة أزواجهن! ويشدد الثنائي على الالتزام بمظاهر التدين من إطلاق اللحية للرجال والنقاب للنساء واللباس الشرعي للجنسين.
يدافع دانيال عن التطبيق الصارم لـ«الشريعة» وفق فهمه، مثل قطع اليد والرجم والجلد والتعزير والإعدام وقتل المرتد ويصر على معاداة الليبرالية، وفي حين يدعو إلى قيام الدولة الإسلامية وتطبيق الشريعة يرى في أي نشاط سياسي للعرب والمسلمين الأميركيين يؤدي إلى التعاون مع مؤسسات ليبرالية أو حركات حقوق مدنية أو على علاقة بحقوق المرأة وحقوق الإجهاض وحقوق المثليين سلوكاً غبياً يصل إلى حد الجريمة لذلك لا يتورع عن جعل معركته مع شخصيات مسلمة فعّالة سياسياً مثل النائبتين الديمقراطيتين إلهان عمر ورشيدة طليب، أو مع شخصيات إسلامية ناشطة، حرباً ضروساً لا هوادة فيها.
إلّا أن لموقفه من الليبراليين واليساريين الأميركيين، خصوصاً ذوي الخلفية العربية أو الإسلامية وجهاً أقبح يتمثل في أنه يتجاوز تمثيل دور «الغبي المفيد» في تزكية التعبئة اليمينية الدينية ضد الإسلام والعرب من حيث الحديث عن السعي لأسلمة أميركا وتطبيق الشريعة فيها، وهما نقطتان أَثيرتان عند الفاشيين الجدد، إلى ترداد نظريات المؤامرة التي تخترعها الأوساط اليمينية ولعل أبرزها السؤال غير البريء عمن أسس «داعش»، مع أنه لا يستنكر الإرهاب صراحة إلا في سياق اتهامي، وحركة «الحبة الحمراء» بمواجهة تهجين الذكورية عند الرجال! وفوق ذلك فهو يتعاون ويتواصل ويروّج لشخصيات متزمتة وفاشية أمثال الكندي جوردن بيترسون والنازي البريطاني الجديد مارك كوليت، ولا يتوانى عن ترويج النطريات اليمينية ضد الحداثة والعلم والتقدم وضد القائلين بالتغير المناخي أو أنصار البيئة وكان أول المدافعين عن الرئيس دونالد ترامب رافضاً اتهامه بمعاداة المسلمين والعرب والمهاجرين ووضع اللوم كله على باراك أوباما (الذي ولسبب ما يكن له مشاعر شديدة العداء والكراهية ويصر على استخدام اسمه الثلاثي ليبدو فيه «حسين» واضحاً) وبل وهيلاري كلينتون والحزب الديمقراطي.
لا يمكن لمقالة أن تحيط بكل الضرر الممكن والمترتب على شخص كهذا، فهو ذكي ونشيط ويفهم اللعبة الإعلامية والشؤون السياسية، وفوق ذلك هو محدث لبق ومحاور متمرس إلى درجة تؤهله ليكون من فرسان «فوكس نيوز» أو «وان أميركا نيوز»… يعرف كيف يتهرب من الأسئلة الحرجة وكيف يبدل الموضوع ويغير سياق النقاش، ويمارس الـ«ماذاعنية» بكفاءة فيرد على السؤال بعشرة ويتهرب من الإجابة بحنكة. حبذا لو كانت موهبة كهذه في خانة من يطلب الحق ولو أخطأ، لكن للأسف هو في خانة من يطلب باسم الحق باطلاً لا سبب واضح له سوى النرجسية والمصلحة الشخصية، وهذه آفة لا تقتصر عليه في أيامنا هذه، كذلك لا تقتصر آثارها السلبية عليه بل ترتد على الجميع بدرجة أو بأخرى.
Leave a Reply