قبل الحفل السنوي لـ«إيباك»، وخطابات المرشحين للرئاسة الأميركية والتي قدّم فيها المرشحون جميعهم أوراق اعتمادهم للرئاسة الأميركية فأكدوا جميعاً، كما هو مطلوب منهم تماما، أنّ أمن إسرائيل مقدّس، وأنّ القدس عاصمتها الموحّدة، وأنهم يتكفلون بتفوقها العسكري المستقبلي، حتى قبل كلّ ذلك، كتب حسين آغا وروبرت مالي مقالاً في «نيويورك تايمز» في 3 حزيران (يونيو) 08 جديراً بالتوقف عنده. في هذا المقال تحدث الكاتبان عن بداية انحلال الجليد عند أزمات ثلاث في الشرق الأوسط، ألا وهي الحصار اللاإنساني المفروض على غزّة، وتوصّل الأطراف في لبنان إلى اتفاق سياسي مبدأي في الدوحة، وإعلان سورية وإسرائيل عن بداية مفاوضات السلام غير المباشرة برعاية تركية. ولفت الكاتبان النظر إلى أنّ هذه الأطراف تتحرك في غياب، وأحياناً بالرغم من، الولايات المتحدة، واعتبرا ذلك ظاهرة جديدة وجديرة بالتوقف، وأنّ ظهور قطر وتركيا كراعية لعملية تفاوضية هو برهان ملموس على بداية تلاشي مصداقية وتأثيرات الولايات المتحدة. كما أنّ سياسة العزل التي اتبعتها الولايات المتحدة وتسليح فتح ضدّ حماس، وتسليح بعض الأطراف الأخرى هو تعبير عن فشل رؤية الولايات المتحدة للحوار والتفاوض بأنجع الطرق لتحقيق السلام والأمن في الشرق الأوسط. واختتم الكاتبان بالقول إنّ هذه التحركات الثلاثة غير مضمونة النتائج وقد تنتهي بالفشل أو تذهب باتجاهات غير مقصودة، ولكنّ الشيء الأكيد أنه «في وقت حرج وفي منطقة حرجة، فإنّ الولايات المتحدة غائبة عن الساحة»
بعد ذلك أتت خطابات مرشحي الرئاسة الأميركية وخطاب السيدة رايس، التي قدموا فيها جميعاً واجب الولاء والطاعة لإسرائيل، أمام إيباك، ومن ثمّ يجري التعتيم على محاولات تمرير مشروع الاتفاقية الاستعمارية الجديدة بين واشنطن وبغداد، والتي ببساطة تريد تحويل العراق إلى قاعدة دائمة للولايات المتحدة، وإخضاع الشعب العراقي بالحديد والمخابرات، وحرمانه من حريته وكرامته وسيادته، وإجباره بأن يرزح تحت احتلال مهين للمئة عام القادمة، أتى كلّ ذلك ليبرهن للعرب للمرة المليون أنّ الحسابات الأميركية لا تأخذهم جميعاً بالاعتبار، إلا كمصدر دائم للنفط، وداعم سخي للدولار، ومستورد ثري لصفقات الأسلحة، وأنّ حياتهم وأمنهم وكرامتهم وحقوقهم ليست واردة في قاموس الساسة الأميركيين، بل إنّ هؤلاء الساسة يعلنون على العالم أنهم على استعداد لفعل ما هو مطلوب منهم كي تبقى اليد العليا في المنطقة لإسرائيل، ودعمها بالمال والسلاح من أجل مصادرة أراضيهم وحقوقهم وحريتهم سواء أكان ذلك في فلسطين أو الجولان أو العراق. فماذا يفترض من العرب أن يفعلوا؟ وكيف لهم أن يتحركوا في ضوء ثبات المعطيات بين أيديهم ووضوحها وضوح الشمس؟
إنّ قراءة معمّقة للأحداث في المنطقة تُري دون أدنى شكّ أنّ العرب يمتلكون عناصر قوتهم إذا أرادوا إلى ذلك سبيلاً، وأنهم الوحيدون القادرون على إدارة ما يجري في منطقتهم وتوجيهه وجهة الصواب، أيضاً، إذا عبّروا عن إرادة حقيقية لفعل ذلك، وإذا ما اقتنعوا جميعاً أنّ مفاتيح كلّ ما يتعرّضون له منسيّة في جيوبهم، ولا فائدة ترتجى من البحث عن هذه المفاتيح عبر البحار، ولدى من يدّعي القوة والموضوعية والمسؤولية الإنسانية وهو منهم جميعاً براء. إنّ ما حذّر منه حسين آغا، وروبرت مالي هو، في الواقع، بداية تشكّل قناعة لدى بعض العرب، على الأقل، بأنّ التنسيق والتعاون والحوار بينهم يعود بالفائدة عليهم جميعاً، وإنّ انعقاد قمة دمشق وما تلاها من محاولات جادة لتحريك فعلي للتضامن العربي، يبرهن، دون أدنى شكّ، أنّ العرب وحدهم المسؤولون عن الدم العربيّ، وهم بتعاونهم قادرون على الدفاع عن الحقّ العربي. والمأمول هو أن تترسخ هذه القناعة في المستقبل القريب وأن تتغيّر طبيعة الأسئلة والرؤى من أسئلة توجّه للولايات المتحدة وإسرائيل عن مصير بلداننا وشعوبنا وأسرانا وأرضنا، إلى أسئلة توجّه للعرب هنا في ديارهم، بحيث يلوم العرب أنفسهم كلما قتلت إسرائيل طفلة في السادسة أو الرابعة من عمرها، وكلما حدث تفجير إرهابي في بغداد أو الجزائر، لأنه ومهما تكن هوية المعتدي على أطفال وشباب العرب في غزّة أو بغداد أو الصومال أو صنعاء فإنّ العرب قادرون، إذا ما تحمّلوا مسؤولياتهم، على تغيير وجه ومستقبل أوطانهم ومنطقتهم إلى شكل يتمّ به الحفاظ على كرامة العربيّ، ولا يتجرّأ مرشحو الرئاسة الأميركية على تجاهل مصالح وحقوق وكرامة وحرية مئات الملايين من العرب، فيما هم يقدّمون بإذلال منقطع النظير مراسيم الطاعة والولاء لممولي حملاتهم الانتخابية.
ولكنّ هذا التحوّل يتطلب رؤية إستراتيجية تقوم على قاعدة إننا أمة أرادها الله عزّ وجل أن تكون واحدة موحّدة في مقاومة الاحتلال حيثما حلّ في بلداننا، وأن يكون نشاطنا الإعلامي والدبلوماسي على الأقل متضامناً على مستوى العالم، وأن يتمّ تنشئة الأجيال الشابة على التمسك بحقوقها بحيث نضمن مستقبل هذه الحقوق مهما طال أمد المعاناة والصراع. ولنرَ ما يروّجه الأعداء في الإعلام لكثير من الوهم والتهويل. فالعرب ليسوا بالضعف الذي يوصفون به، بل إنّ هذا التهويل يراد منه شلّ إرادتهم، وإدخال اليأس إلى قلوبهم قبل أن يبدأوا العمل. كما أنّ خصومهم ليسوا بالقوّة الأسطورية التي تعزى إليهم من قبل دوائرهم ومروّجي حملات الدعاية لهم. فنحن نعيش في عصر يجرؤ فيه كاتب في جريدة الغارديان البريطانية هو جورج مونبيوت، على الكتابة رغم سلطة المخابرات الغربية وسجونها السرية، بعنوان «مجرمو الحرب يجب أن يخافوا من العقاب ولذلك أطارد جون بولتون» («غارديان» 3 حزيران 8002) وإذا كانت جريدة «دايلي تلغراف» البريطانية تقرّ علناً بأنّ اللوبي اليهودي متنفّذ في السياسة الأميركية، وإذا كان القس ديزموند تيتو، من جنوب إفريقيا، يعترف بأنّ ما تفعله إسرائيل ضدّ الفلسطينيين هو أبشع وأقسى مما تعرّض له شعب جنوب إفريقيا من تمييز عنصريّ، وإذا كانت جريدة «لوس أنجلوس تايمز» (3 حزيران 2008 تنتقد إسرائيل لعدم السماح لطلاب فلسطينيين بالاستفادة من منح دراسية في الولايات المتحدة من خلال إبقائهم في سجن غزّة الكبير، فماذا ينتظر العرب وكتّابهم وإعلامهم على الأقل، وهم أصحاب الحقّ والقضية، كي يحملوا قضيتهم إلى كلّ من له أذنين ليسمع وعينين ليرى؟
إنّ الوهم الذي يعيشه بعض العرب عن قدرات خصومهم الأسطورية، من جهة، وعن أوهام ضعفهم من جهة أخرى هو في معظمه نتاج حالة الإحباط واليأس الذي يسرّبه الأعداء بهدف سلب إرادتنا. وإنّ حديث الإعلام المغرض عن خلافات العرب المستمرّة هو في جوهره يصبّ في خطة الإحباط المعادية. ولكي أثبت صحّة ما أقول أودّ أن أسوق مثالاً واحداً عشتُه مؤخراً عن هذا الموضوع. فقد كنتُ في ورشة عمل النساء القياديات التي دعت إليها وزيرة خارجية اليونان، السيدة دورا باكايوني، وهو الاجتماع الخامس للمبادرة التي بدأتها وزيرة الخارجية الأميركية كونداليزا رايس في عام 2002 في نيويورك. بعد الكلمة الافتتاحية أعطت وزيرة الخارجية اليونانية الكلام لمستشارة كونداليزا رايس، والتي عوملت من قبل كثير من الحاضرات وكأنها رايس. وأخذت المستشارة تتحدث بالصلف الأميركي المعهود عن «إنجازات» الولايات المتحدة في تمكين النساء في البرازيل وإفريقيا والباسيفيك من خلال توزيع بضع دولارات عليهنّ، متجاهلةّ تماماً المآسي الدموية التي أنزلتها حكومتها بعشرات الملايين من النساء العربيات قتلاً وترميلاً وبؤساً، ومتناسيةً الحروب التي شنّتها إدارتها على العرب، ومشيرةً إلى بعض الدول «كدول مسلمة» ومتجاهلةً طبعاً الاحتلال والقتل والتعذيب الذي تتعرّض لها المرأة العربية في أقطار مختلفة على يد جنودها وجنود حلفائها الإسرائيليين. بدأت النساء العربيات الحاضرات يتبادلنَ النظرات والغضب المكبوت، وما إن انتهت المستشارة من مداخلتها إلى أن ارتفعت أكثر من يد عربية طالبةً الحديث. تحدثت السيدة حنان عشراوي، من فلسطين، مستغربةً تجاهل الاحتلال والذي هو أساس مأساة المرأة العربية، وأسما خضر من الأردن، والأميرة هيا من الإمارات، والأميرة ماشيل بنت فيصل بنت تركي بن عبد العزيز آل سعود، والدكتورة هدى البان من اليمن، وكاتبة هذا المقال. والجميع تحدّثن عن أنّ الوضع السياسي للمرأة العربية والذي تسبب به الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين، والأميركي في العراق، يكتسب أولوية على كلّ القضايا، وأنه لا بدّ من إدخال عبارة في البيان الختامي للاجتماع عن ضرورة إنهاء الاحتلال الأجنبيّ كشرط أساسي ولا بدّ منه لتمكين المرأة العربية، واستعادة حقوقها وكرامتها. ونال الصوت العربي تأييد وزيرة خارجية النمسا وإيسلندا وممثلة التشيلي ومولدافيا، بحيث أصبح موضوع إنهاء الاحتلال الموضوع الأساسي، ولم يعد أحد يتذكر كلمة واحدة من الكلمات المدبجة والمصطنعة التي تفاصحت بها مستشارة رايس. إذاً علينا أن نقتنع بأنّ علينا أن نحثّ الخطى لنخلق «إيباك» العرب في كلّ مناسبة ومؤتمر ومكان وزمان، والتأكيد على الاحتفاظ بحقّ مقاومة الاحتلال الأجنبيّ إلى أن ينبلج فجر الحرية على العرب، وإلى أن يستعيدوا كرامتهم. ولن يتمّ ذلك إلا إذا تبنّوا مبدأ حلّ خلافاتهم بالحوار، فالحوار يجب أن يكون مع الأشقاء، والتفاوض مع الأعداء، والمقاومة للاحتلال.
Leave a Reply