المجتمع الذي لا ينتج فناً هو مجتمع ميت يعيش خارج التاريخ والحضارة الإنسانية.. وإذا كانت الجالية العربية في ميشيغن حديثة العهد عي هذه الأرض، بلغة التاريخ، وتعيش حالة من الصراع الداخلي بين موروثها العربي وواقعها الأميركي إلا أن ذلك لم يمنع مجتمعها من إنتاج إبداعات فنية، جاءت بمعظمها بمبادرات فردية، سرعان ما تلقفها المجتمع ليحكم عليها بالنجاح أو الفشل.
«الأوركسترا العربية في ميشيغن»، هي مؤسسة فنية غير ربحية، تشكلت بجهود العديد من الفنانين الطامحين إلى نهضة الجالية العربية، واختصاراً لحلم جامع تغاضت عن تحقيقه المؤسسات العربية الأميركية على مدار العقود الماضية.
بإمكانات ذاتية استطاع موسيقيون عرب أميركيون أن يزرعوا الأمل معلنين بأصابعهم الطرية إن ما تصنعه جوقات النشاز لا يمكن أن يشكل نهاية المطاف ما دام هناك أوتار وأحلام وأصابع وأصوات تجعل الحلم حقيقة وتجعل التلاحم والتناغم بيننا وبين ماضينا وثقافتنا أكثر إشراقاً.
فكرة الأوركسترا بدأت عبر لجنة مؤلفة من مايكل ابراهيم وأسامة بعلبكي ود. فيسكان أرتينيان وموسى شعيب في العام 2010. أما الهدف فكان إثراء المشهد العربي الأميركي بمنبر ثقافي لغته الموسيقى يوظف العديد من الفنانين والموسيقيين الذين يتمتعون بالمواهب والقدرات الإبداعية العالية بغية رفع المستوى الفني العام للجالية والذي يطغى عليه «الفن الرديء المقترن بالأرجيلة!». وارتأت «الأوركسترا العربية» أن ليس هناك أثرى من مكتبة موسيقى «الزمن الجميل» التي يفتقدها الجمهور العربي الذواق والتوّاق لإعادة إحيائها.
وفي العامين الأولين من إنطلاقتها، استطاعت «الأوركسترا العربية»، التي تضم 24 موسيقياً عربياً، باستثناء سبعة يحملون جنسيات أجنبية، أن تقدم لجمهورها في ديترويت باقة حفلات لاقت رواجاً وترحيباً كبيراً كشف مدى اشتياق الجمهور للفن العربي الأصيل ومدى تعلقه بإنتاجات عمالقة «الزمن الجميل» مثل أم كلثوم وفيروز ومحمد عبدالوهاب ووديع الصافي ووردة الجزائرية وصولاً الى جورج وسوف وأعمال الرحابنة…
واللافت في «الأوركسترا العربية» التي يؤدي أغانيها عدد من الفنانين العرب الأميركيين الذين يتمتعون بأصوات شجية وبأداء طربي، عدم الابتعاد عن اللحن الأساسي، على خلاف الكثيرين ممن حاولوا تحديث هذه الأغاني الخالدة، بل حافظت الأوركسترا على الجوهر الشرقي والطربي فيها لتؤكد أنها نتاجات يُحتفى بها في كل العصور، وما تجاوب الجمهور، إلا دليل على نجاح هذا التوجه الرافض للعبث بعراقة الموسيقى العربية الأصيلة.
كما لعبت أصوات الفنانين أسامة بعلبكي، نضال إيبورك، فيصل وزني (ميشيغن)، وغادة درباس (مونتريال)، الدور المكمّل لروعة الموسيقى، مضيفين نكهة خاصة لحفلات الأوركسترا التي حظيت بإعجاب الجمهور الى حد الذهول.. خاصة وأن ما حصلوا عليه في المسرح فاق توقعاتهم ودفعهم الى السؤال عن موعد الحفلة المقبلة وانتظارها بكل شغف..
ثلاث حفلات جديدة
هؤلاء وآخرون سيستمتعون بباقة حفلات جديدة أعلنت عنها الأوركسترا العربية تحمل عنوان «في يوم وليلة» ستقام جميعها على خشبة مسرح «ميوزك هول» في وسط ديترويت، وستكون أولها يوم السبت القادم في 22 أيلول (سبتمبر) عند الساعة الثامنة مساء، تليها حفلة في 22 آذار (مارس) 2013، وثالثة في حزيران (يونيو) 2013. (للحجز يمكن زيارة الموقع الإلكتروني michiganaraborchestra.org أو الإتصال على ٣١٣.٨٨٧.٨٥٠١ أو ٣١٣.٥٨٣.٣٣٣٦)
لقد كانت بداية الأوركسترا العربية متواضعة وبجمهور لا يتجاوز الـ150 شخصاُ ثم بدأت تكبر تدريجياُ حتى استطاعت من خلال تميّز أدائها أن تستقطب حوالي 1000 شخص في آخر حفلاتها. وفي غضون العامين الأولين قدمت الأوركسترا عروضها على عدة مسارح منها «جامعة مشيغن» (آناربر وديربورن) و«وين ستايت» و«المتحف الأميركي العربي» و«ثانوية فوردسون» قبل أن تنتقل الى مسرح «الميوزك هول» في قلب ديترويت.
وبقيادة المايسترو مايكل إبراهيم ذاع صيت الأوركسترا في عموم منطقة ديترويت الكبرى مبشراً بانتشار واهتمام أوسع، وقد نجح إبراهيم في الجمع بين عدد كبير من الموسيقيين وتوحيد آدائهم بانسيابية لافتة رغم أن بعضهم تعلم الموسيقى سماعياً. وتضم الأوركسترا أيضاً «الجوقة» وهي مجموعة من المغنيين الذي يؤدون بانسجام فيما بينهم ومع الفرقة الموسيقية و«التخت الشرقي».
ولكن خلف الأوركسترا أيضاً مجلس إدارة نشيط، لا يقتصر عمل أعضائه على الشؤون التمويلية والإدارية بل ينخرط (شعيب وبعلبكي وأرتينيان) باختيار الأغاني والموسيقى، قبل أن يقوم إبراهيم بتنويطها وتدريب الفرقة عليها ليخرج بعدها العمل الفني متكاملاً إلى الجمهور.
وجه حضاري للجالية العربية
وكما هو معروف فإن إنتاج العمل الفني يحتاج الى التمويل والدعم اللازمين للظهور بأفضل صورة ممكنة، وهنا بدأ دور المؤسسات العربية ورجال الأعمال يزداد فعالية، لاسيما بعد البداية الناجحة للأوركسترا التي بدأت تتلقى المزيد من التبرعات المالية والدعم المعنوي من مؤسسات معروفة مثل «أي دي سي» و«أي سي سي» و«المتحف الأميركي العربي» إضافة الى رجال أعمال بارزين مثل شاكر عون صاحب «غاردن فودز». ولكن مواصلة المسيرة وتمتين الأوركسترا يحتاج الى المزيد من الدعم لهذه المؤسسة الفنية غير الربحية التي باتت تُعد واجهة أساسية للثقافة العربية في ميشيغن.
وبهذا الصدد يقول مايكل ابراهيم لـ«صدى الوطن» إن النجاح والشهرة التي حققتها الأوركسترا خلال عامين من انطلاقتها جاءت ترجمة لجهود شخصية وتطوعية ساهم بها كل من المؤسسين والموسيقيين والمطربين والإداريين. مشيداً بشكل رئيسي بجهود أعضاء اللجنة التأسيسية المؤلفة من شعيب وبعلبكي ود. أرتينيان والتي لها الدور الأكبر في إنجاح الأوركسترا، ولكن إبراهيم يؤكد أن تطوير هذه المؤسسة الفنية يجب أن يحظى باهتمام كل أبناء الجالية العربية، داعياً الجميع الى المبادرة في دعمها لاسيما وأنها تتحمل أعباءً مادية كبيرة بسبب المصروفات المترتبة عليها من أجهزة صوت وأجور الموسيقيين، وذلك «لتبقى صورتها ناصعة وراسخة ذلك لأن نجاحها هو نجاح للجالية».
الموسيقى، بحسب إبراهيم أيضاً «تدخل إلى أعماق الإنسان وتنشر التسامح والمحبة بين الشعوب وترتقي بالمجتمعات»، وهذا بالضبط ما تحتاجه مجتمعاتنا العربية في هذه الأوقات العصيبة والأجواء المتشجنة، لأن الفن الراقي كفيل بخلق أجواء سعيدة وبث الطمأنينة في النفوس خاصة الموسيقى العربية الأصيلة التي وصفها بـ«نعمة ونسمة جديدة» يحتاجها المجتمع العربي في ميشيغن. ويختم إبراهيم كلامه بالقول «إن الأوركسترا العربية منجز حضاري للجالية قادر على تغيير الصورة السلبية عن العرب في المجتمع الأميركي وعكسها إلى صورة ايجابية وناصعة تقول: إننا شعب يتذوق الفن ونستطيع أن نقدمه للآخرين».
حالياً، تستقبل «الأوركسترا العربية» الدعم المالي عبر موقعها الإلكتروني michiganaraborchestra.org، كما أن لديها صفحات للتواصل الإجتماعي على موقعي «فيسبوك» و«تويتر» إضافة الى مقاطع فيديو على قناتها على موقع «يوتيوب».
Leave a Reply