عماد مرمل – «صدى الوطن»
نجح الحراك المدني فـي لبنان بعد مرور أسابيع عدة على ولادته فـي إثبات وجوده، بل هو تمكن من ان يفرض نفسه رقماً صعباً فـي الشارع، برغم انه حديث العهد وطري العود.
فـي البداية، افترض البعض ان الحركة الاعتراضية فـي الساحات ستكون مجرد استعراض شبابي لـ«هواة النوع»، من محبي استقطاب الاضواء وافتعال الضوضاء، لكن سرعان ما تبين أن الحراك أعمق من ذلك بكثير، وانه يعبر عن «الوجع الخام» للبنانيين، على تنوع طوائفهم مذاهبهم.
وقد حارت السلطة فـي كيفـية التعامل مع هذه الظاهرة الشعبية، متأرجحة فـي سلوكها الميداني، بين محاولات المسايرة والاحتواء حينا، وبين استخدام العنف المفرط وأقسى وسائل القمع حينا آخر، فـيما كانت على المستوى السياسي تسعى الى قطع الطريق على اتساع حجم الاعتراض من خلال المسارعة الى عقد طاولة للحوار، بدت انها تفتقر الى شروط النجاح، لكنها غدت فـي الوقت ذاته حاجة ملحة للطبقة السياسية الساعية الى ترميم صورتها التي تعرضت لكل أنواع التهشيم فـي الشارع.
ولكن الحوار المتجدد لم يقنع، هذه المرة، الكثير من اللبنانيين الذين فقدوا الثقة فـي التركيبة الحاكمة، انطلاقا من خبرتهم الوافـية بها وتجربتهم المريرة معها، على مدى عقود من استحواذ هذه التركيبة على مفاصل الدولة ومقدراتها، أفضت الى فساد مستشر ودين عام تجاوز سقف الـ70 مليار دولار.
لقد بات واضحاً أن محاولات الترقيع والتخدير التي طالما اتقنتها السلطة فـي التعامل مع الأزمات، لم تعد تفـيد فـي مواجهة غضب الشارع الذي تجاوز ملف النفايات الى ما هو أبعد منه بكثير، وبالتالي فإن مكونات تلك السلطة باتت معنية بالاسراع فـي اتخاذ قرارات جريئة، إذا كانت تريد الحد من خسائرها، لعل أهمها هو إقرار قانون للانتخابات النيابية على اساس النسبية، يسمح بتمثيل صحيح وعادل للقوى الحية فـي المجتمع اللبناني.
لكن المفارقة فـي هذا المجال، أن الحوار بين أهل الطبقة السياسية لم يلامس بعد نبض الناس ومزاجهم، بل بدا حتى الآن وكأنه يدور فـي واد آخر يستحيل فـيه التقاط «الارسال الشعبي».
وليس أدل على هذه «الغربة» من ان أطراف الانقسام الداخلي اكتشفت بعد مرور أكثر من عام على الشغور فـي موقع رئاسة الجمهورية ضرورة مباشرة البحث فـي مواصفات الرئيس المقبل، فـي حوار طرشان لا يملك القرار والمبادرة، بينما الجمهورية كلها تترنح على حافة الهاوية وتعاني من حالة انعدام توازن، لا تحتمل ترف النقاشات العبثية والطويلة.
وما دامت السلطة لا تزال تتصرف مع مظاهر الاحتقان فـي الشارع بوسائل بوليسية، من دون تقدير موضوعي لدلالات هذا الاحتقان والمدى الذي يمكن أن يصل اليه، فهذا يعني أن جولات أخرى تنتظر الحراك المدني الذي بات يشكل متنفساً لكل المتطلعين الى تغيير حقيقي وجذري، يعيد الاعتبار الى مفاهيم القانون والعدالة والاصلاح والديمقراطية التي طالها تشويه كبير، بفعل السياسات الرسمية المتبعة منذ نهاية الحرب الساخنة عام 1992 وحلول الحروب الباردة مكانها، مع ما تنتجه من بيئة ملائمة لنمو حالات الفساد المحمية بحصانات طائفـية ومذهبية.
ولأن المسؤولية أصبحت كبرى، والمهمة باتت أوسع، ولان المعركة طويلة والخصم شرس، فان الحراك مُطالب بمراجعة هادئة لمساره، منذ انطلاقته، لسد الثغرات وتصويب الاخطاء، وصولا الى تحصين جسمه وتفعيل دوره، بالشكل الذي يجعله قادرا على استقطاب أكبر قاعدة شعبية نحوه، ذلك ان رصيده الوحيد فـي هذه المواجهة هو الجمهور، وبالتالي يجب ان تكون الاولوية لزيادة هذا الرصيد، ما يتطلب «صيانة» مستمرة للحراك الشعبي، بهدف المحافظة على «جاذبيته» ومنع انزلاقه فـي اتجاهات غير آمنة.
ويمكن القول ان الحراك يواجه فـي هذه المرحلة تحديات كثيرة، من أبرزها:
– بلورة قيادة جماعية وموحدة، تشكل مرجعية واضحة لكل المجموعات والشرائح المنخرطة فـي حركة الاعتراض، مع الابقاء على قدر مدروس من الخصوصية للحملات الشبابية التي يفترض أن تتكون منها تلك القيادة.
– وضع برنامج عمل محدد، ينهي التباينات فـي الاهداف والطروحات، ويتضمن بنوداً متفقاً عليها بين جميع روافد الشارع، لأن الوضوح فـي الرؤية يعزز الثقة فـي الحراك ويشجع المترددين على اللحاق به.
– التخلص من فوبيا الاحزاب، وعدم التصرف بعدائية وأحكام مسبقة مع قواعدها التي قد تتعاطف مع الكثير من شعارات الحراك ومطالبه، لكنها لا تجد مكانا لها تحت سقفه، بسبب التصنيف المعتمد من بعض القيمين عليه، وبالتالي فان ساحات الانتفاضة الشعبية يجب ان تكون مفتوحة امام كل من يريد الانضمام اليها، حتى لو كان حزبيا، لان المطلوب هو البناء على القواسم المشتركة.
-تحصين الحراك ضد الفـيروسات الخارجية وشبهة ارتباط بعض رموزه بسفارات أجنبية، واعتماد أقصى معايير الشفافـية فـي الكشف عن مصادر التمويل، لتقديم نموذج فـي النزاهة، يختلف عن ألاعيب السلطة وارتكاباتها.
– اختيار التكتيكات المناسبة فـي التعبير عن الاحتجاج، وتجنب الدعسات الناقصة التي تؤدي الى مفاعيل عكسية، من قبيل تراجع التعاطف الشعبي (هناك على سبيل المثال من يعتبر ان اقتحام وزارة البيئة لم يكن قراراً موفقاً).
– تعزيز المناعة فـي مواجهة خطر انتقال عدوى أمراض السلطة الى معارضيها، وذلك لئلا يتحول الحراك الى فصيل سياسي له شارعه الفئوي، فـي مقابل القوى الأخرى وشوارعها.
Leave a Reply