نبيل هيثم – «صدى الوطن»
«فرصة أخيرة»… هكذا وصف وزير الخارجية الأميركي جون كيري الاتفاق الأميركي-الروسي حول سوريا، والقائم، في خطوطه العريضة، على أساس تثبيت وقف اطلاق النار، بعد فك الارتباط بين المجموعات المسلحة (المسماة معارضة معتدلة) وبين التنظيمات الإرهابية («داعش» و«جبهة النصرة»)، بما يعبّد الطريق امام محادثات سياسية جديدة في جنيف أو غيرها.
الوزير الأميركي كان واضحاً في توصيفه للاتفاق الأميركي-الروسي، في حديث إلى الإذاعة الوطنية «أن بي آر»، حين قال: «اعتقد أنها الفرصة الأخيرة للحفاظ على سوريا موحدة، وفي حال فشلنا في تحقيق وقف إطلاق النار، والوصول إلى طاولة التفاوض، ستزداد حدة الاقتتال بقدر كبير».
لكن ما لم يقله كيري بوضوح هو ما أشارت إليه الكثير من المصادر الرفيعة المستوى في واشنطن، عبر تسريبات صحافية، ناهيك عن مواقف أكثر وضوحاً خرجت من موسكو، بشأن المفهوم العملي لعبارة «الفرصة الأخيرة»، وهو أن قواعد الاشتباك في سوريا ستتغير بشكل جذري، في حال فشل الاتفاق، بما يعني عملياً امكانية توسيع العملية الروسية لحماية الدولة السورية بالقوة العسكرية في حال فشل الهدنة والمفاوضات.
تلك التصريحات ترافقت مع تطورين بارزين، احتويا على رسائل سياسية موجهة إلى أكثر من جهة، الأول تمثل في نشر روسيا وحدات خاصة على طريق الكاستيلو في حلب، في خطوة تعكس رغبة القيادة الروسية في انجاح الاتفاق مع الأميركيين من جهة، والتأكيد على أن موسكو مستعدة للذهاب إلى أبعد مدى بتدخلها العسكري في سوريا.
رسالة سورية
وأمّا الثاني، فكان سوريّاً بامتياز، وهي رسالة ميدانية وصفها المعلقون الإسرائيليون بأنها «نوعية» و«مفاجئة»، تمثلت في تصدّي الدفاعات الجوية السورية لطائرات إسرائيلية كانت تقصف مواقع للجيش السوري لمساندة «جبهة النصرة» في محافظة القنيطرة، تزامناً مع تحذير سوري لتركيا بأنها «ستتلقى الرد المناسب» في حال واصلت انتهاكاتها للسيادة السورية.
ومن المؤكد أن كثيرين في مراكز القرار داخل الدول المنخرطة في الصراع داخل سوريا، وعليها، قد توقفوا مليّاً أمام التحذيرين السورييين (الميداني والسياسي) لما يعكسانه من تحوّل في وضعية الجيش السوري، الذي بات يدير بإيجابية عالية العمليات العسكرية في حلب، ومعها كلّ الداخل السوري، ويستنفر قدراته لرسم المعادلات الحدودية بالنار.
الأهم من ذلك، أن الرد الجوي السوري أتى ليصيب اسرائيل بإرباك شديد، بعدما قطع الطريق أمام محاولة التشويش الإسرائيلي على الاتفاق الأميركي–الروسي.
ولا شك أن إسرائيل ترغب باستمرار القتال في سوريا إلى ما لا نهاية، خصوصاً أن إسقاط الدولة السورية هو هدف رئيسي بالنسبة لها، لسببين أساسيين، أولهما أن سوريا ظلت تمثل الشوكة في عنق مشروع التسوية الإسرائيلي، والثاني أن سوريا تمثل الظهير المساند للمقاومة في المنطقة.
ولذلك، فقد تعاملت إسرائيل مع الاتفاق الروسي–الأميركي بالطريقة ذاتها التي انتهجتها في التعامل مع الاتفاق النووي الإيراني، أي التشويش الميداني، عبر الجبهتين السورية واللبنانية.
وليست مصادفة ان تأتي الانتهاكات الاسرائيلية الأخيرة للسيادة السورية متزامنة مع الاتفاق الروسي–الأميركي، خصوصاً أن اسرائيل كانت ترغب في أن تشمل ترتيبات هذا الاتفاق جبهة الجولان المفتوحة على اكثر من احتمال.
ولا شك أيضاً في أن اسرائيل كانت تراهن على فشل الاتفاق الاميركي-الروسي، سواء من خلال المواقف التصعيدية لحلفائها في الادارة الأميركية أو من خلال عدم استجابة بعض الفصائل المسلحة للهدنة السورية، لكن عطلة عيد الأضحى غدت فرصة عملية لتبيّن حجم النجاح الذي حققته التفاهمات الروسية- الأميركية، بعدما تخطت نسبة الهدوء على الجبهات السورية كافة، الثمانين بالمئة، باعتراف الأميركيين والروس، ما يعني قدرة التفاهمات على الصمود، برغم المخاطر، وامكانية التقدم بالتالي نحو ترتيبات سياسية جديدة في جنيف.
جبهة الجنوب
ولا بد من الإشارة إلى أن الاتفاق الروسي–الأميركي، أو ما رشح من بنوده، يتحدث عن ترتيبات لا تقتصر على الميدان الحلبي أو الحموي أو اللاذقاني… بل يشمل كامل التراب السوري، بما في ذلك القنيطرة حيث يحقق الجيش السوري تقدماً كبيراً في قتاله ضد «جبهة النصرة» التي باتت، بنظر إسرائيل، الحليف الميداني الأول على جبهة الجولان، ولذلك فإن اسرائيل أرادت من خلال التصعيد الأخير اخراج القنيطرة من التفاهمات القائمة، وبالتالي فرض معادلتها على المشهد الجولاني. حيث شنت المجموعات المسلحة عملية واسعة تحت مسمى «معركة قادسية الجنوب»، وقد نجح الجيش السوري حتى الآن في التصدي لها.
بهذا المعنى، فإن الرسالة السورية الجوية واضحة، ويبدو أن إسرائيل قد فهمتها بشكل جيد، فبرغم الحديث عن اسقاط طائرة استطلاع اسرائيلية اخترقت المجال الجوي السوري، إلا أن تل أبيب حرصت على عدم الاعتراف بالأمر، ما يعني، من الناحية العملية عدم رغبتها في التصعيد، وهو السلوك ذاته الذي انتهجته حين قامت باغتيال قادة المقاومة في القنيطرة، والشهيد سمير القنطار قرب دمشق، ذلك أنها غير جاهزة لتحمّل تبعات مقامراتها العسكرية، سواء في لبنان أو في الجولان.
وبرغم الصمت الرسمي الإسرائيلي إزاء تطورات الجبهة الجولانية، إلا أن ما نشرته بعض الصحف الإسرائيلية يعكس الكثير من حالة الارباك لدى المسؤولين السياسيين والعسكريين في تل أبيب، فصحيفة «يديعوت احرونوت» أشارت الى ان القيادة الإسرائيلية واجهت «معضلة»، في التعامل مع الرد السوري، مشيرة الى تجاذب بين مطلبين: إغواء كبير جداً وضخم لإيقاف الأسد ومنعه من الاستمرار في إجراءاته الردعية، عبر استهداف «أهداف مؤلمة في العمق السوري»، وهو الرد الذي كان سيفرض على الاسد التصعيد في الرد على الرد، أو التغاضي عمّا حدث بالرغم من ان ذلك سيظهر اسرائيل كـ«دولة ضعيفة».
قواعد اشتباك جديدة
وأما صحيفة «إسرائيل هايوم»، المقربة من بنيامين نتنياهو، فأشارت أن الرد السوري كان «مدروساً»، والهدف منه «نقل رسالة تحذير» بغض النظر عن إسقاط الطائرة من عدمه، مشيرة إلى ضرورة فهم الموقف السوري «استناداً إلى الإنجازات التي تحققها سوريا في الميدان، سياسياً وعسكرياً، فالرئيس السوري بشار الأسد مقتنع بأنّ الوقت في مصلحته، وأنه سيتمكن من هزيمة أعدائه… قد تكون هذه الثقة بالنفس مرتكزة على الدعم الذي يحظى به».
وقد تجلت ثقة الأسد في زيارة بارزة الى مدينة داريا الخارجة لتوها من أتون الحرب، حيث أدى صلاة عيد الأضحى المبارك في جامع الصحابي الجليل سعد بن معاذ برفقة مسؤولين رفيعين في حكومته، في خطوة حملت رسائل داخلية وخارجية تنبئ بقرب انتهاء الأزمة السورية على عكس ما أراده خصوم الأسد الإقليميون والدوليون.
وثمة قناعة راسخة، في إسرائيل وخارجها، أن الرد السوري في سماء القنيطرة ما كان ليحدث لو جاءت الاعتداءات الاسرائيلية على سوريا قبل الاتفاق الأميركي–الروسي، بمعنى أن سوريا لم تكن لتردّ برسالة جوية كهذه، ما يعني، عملياً، أن ثمة قواعد اشتباك جديدة رسختها سوريا في الجولان، مستفيدة من هذا الاتفاق، فالتصعيد سيكشف التشويش الاسرائيلي على التفاهمات، ما يضع تل أبيب مجدداً في موقف حرج للغاية تجاه الولايات المتحدة –وبطبيعة الحال إزاء روسيا– تماماً كما جرى حينما حاول نتنياهو عرقلة الاتفاق النووي بين ايران والدول الست الكبرى قبل أشهر.
في العموم، فإن الرد السوري على اسرائيل كرّس معادلة جديدة على جبهة الجولان، تماماً كما كرّست الانجازات في مناطق اخرى معادلات جديدة في الميدان، ولكن الأهم أنه شكل حماية للاتفاق الروسي-الأميركي، بنزع صاعق التفجير الاسرائيلي. يشي كل ذلك بأن سوريا قد دخلت مرحلة مفصلية، باتت فيها الأمور تسير وفق سيناريوهين لا ثالث لهما: إما تثبيت الهدنة المنشودة والبناء عليها لدفع الحل السياسي، أو انهيار ترتيبات وقف العمليات العدائية، وبالتالي فرض حل عسكري، من قبل المحور السوري-الروسي-الإيراني وهو حل لن يكون هناك أي جدال بشأن مشروعيته، طالما أن هذا المحور قد التزم بالهدنة، ولن يكون الطرف الذي سيبادر الى انهائها.
Leave a Reply