(بينما ينامُ العالم) كتابٌ آخر يؤرِّخُ لمأساةِ الشعبِ الفلسطيني، التي ابتدأ نزيفُها قبيل أيّار 1948، حيثُ أغمضَ العالمُ عينيهِ عمّا تعرَّضَ لهُ شعبٌ عريق في أرضَهَ وحضارتِهِ ذات الخصوصيّةِ المتميِّزة، قِدمَ أشجارِ الزيتون والتين والبرتقالِ، واقتُلِعَ من أرضِهِ بدون ذنبِ جناه، إلّا تمسُّكِهِ بالحياةِ على في وطنه الذي عاشَ فيهَ أجدادُه وتعطَّرَ بإنجازاتِهِم الإنسانيّة في ركبِ الحضارةِ البشريّة.
تكتبُ سوزان أبو الهوى، وبأسلوبٍ أخّاذ، ساردةً عبرَ صفحاتِ كتابِها المذكور، عذابَ وقهرَ أربعةِ أجيالٍ من حياةِ عائلتِها المعذَبة، بادئةً بحكايةِ جدِّها وجدّتِها، وتشبُّثهما بقريتِهِما وموتِهِما المأساويّ قهراً بعد معاناةِ التهجير قسراً من أرضِهِما إلى مخيَّمِ جنين، ومن وقتِها انثالَ مسلسلُ المأساة والمعاناة لثلاثةِ أجيالٍ ولغايةِ اللحظةِ الراهنة.
وخلالَ سنواتِ الإنتظارِ الطويلة في حلُمِ العودةِ إلى بيتِهِ وبيتِ أجدادِه، يختفي الأبُ الذي يجِدُ نفسَهُ قد أصبحَ عاجِزاً عن مقاومةِ ومن ثمّ مواجهةِ حِدّة القسوة التي أحاطتهُ من كلِّ حدبٍ وصوب، من عالَمٍ ينصر ويؤازِرُ الظالِم على ظُلمِهِ. وبعد حربِ حزيران سنة 1967، تدخُلُ الأم في عالَمٍ صامتٍ رافضٍ لكلّ ما يجري. الأمّ الجميلة القوِيّة التي فقدَتْ أحدَ ابنَيْها خلالَ رِحلةِ النزوح من قريتِها إلى مخيّم جنين، تنهارُ انهِياراً تامَاً حتّى تقضي حسرةً على وطَنٍ ضاع فضاعَ معهُ الأهلُ والزوجُ والأولاد.
أنّ المأساة تكمن ذروتُها في ذبحِ عائلةِ أخيها في مجازر صبرا وشاتيلّا، وقتل زوجِها الطبيب في شقّتِهِ من قبَلِ أشخاصٍ عتاةٍ طغاةٍ طبّلوا وزمّروا وحمّلوا العالَمَ كلّه ذنبَ اضطِهادِهم وحرقهم المزعوم الذي ابتدعوه لتبرير أعمالِهم الوحشيّة في اضطِهاد الشعبِ الفلسطيني واقتلاعه من أرضِه ونثرِهِ إلى نيرانِ التهجير والشتات في المخيّمات بعد عجزهم عن إبادتهم التامّة.
أنا شخصيّاً وكمعاصرة وشاهدة عيان لما تعرّضَ له الشعبً الفلسطيني، ولما قاسيتُهُ وعانيتُهُ خلالَ احتِلال العصابات الإسرائيليّة لجنوب لبنان الحبيب، تأثّرْتُ جدّاً وتعاطفتُ مع مأساة سوزان أبو الهوى، وبمأساة شعبٍ مغلوبٍ على أمره، مسلوب الإرادة، على أيدٍ أثيمة لعصاباتٍ شُذّاذِ الآفاق التي تدّعي أنّها عانتْ من القتلِ والإضطهاد، تمسٍكَنَتْ حتّى تمكّنت لتُمارِسَ الوخشِيّةَ في إبادةِ وتهجير أناسٍ أبرياء، لم يكونوا أبداً سبباً لإي إبادتهم واضطِهادهم كما يزعمون زوراً وبهتاناً.
عندما انتهيْتُ من قراءةِ (بينما ينامُ العالَم) تساءلتُ: أين غضبُ الله سبحانه وتعالى؟ وكيف تسمحُ قدرتُهُ وتحكمُ مشيئتهُ بكلّ ماجرى ويجري؟ وإذا نامَ العالَمُ كلُّه وأغمضَ عينيه عن كلِّ ما تعرّضَ له شعبٌ أعزل سواءً من قِبَلِ زعمائه أو من زعماءِ العالَم، مَن يرحم الفقراءَ والضعَفاء غيرُكَ يا ألله؟
خلالَ سِنّي دراستي لنيْلِ شهادة الثانوِيّة العامّة، هنا في أميركا، ومن دراستي للأدبِ الإنكليزي كانت رواية (ليل) مقرّرة، وهي الرواية العظيمة لمؤلِّفِها إيلي ويسل، الحاصل على جائزة نوبل للأدب. كانت القصةُ تروي مأساة الهولوكوست التي تعرض لمأساة أتباع الدين اليهودي في أوروبا، على لسان الكاتب الذي كان صبيّاً أثناء وقوعها.
ومن مجرى السياق السرديّ للقصّة يركِّزُ الكاتب على (عدم الثقة بأيِّ أحدٍ في العالَم، والإتّكال على أنفسِنا فقط لمواجهة القوّة التي تسعى للقضاءِ علينا ).
أيضاً الكاتب، يسخر من قومِهِ الذين يذكرون اللهَ ويتّكلون عليه، ولتحقيق هدفهم في إقامة كيان، «يجب ترك الله جانباً والتخلّي عن الإيمان بهِ».
تنتهي رواية (ليل) على لسان الكاتب 🙁 لن أصلّي ثانيةً لله، لن يحدث ذلك ثانيةً منّي أبداً، لأنّي لم أعرف أين كان الله خلالَ كل ما جرى من مآسٍ للناس).
إيلي ويسل يعطي جواباً فظيعاً لتساؤلِهِ وهو يشاهد صبيّاً صغيراً يموتُ شنقاً:( (هذا هو الرب معلّقاً على حبلِ المشنقة، وكلّ شئٍ انتهى..الناس، التأريخ، الأدب، التراث، الدين، والرب، وبدأ ليل..ليلٌ طويلٌ آخر لاينتهي.)
بينما ينامُ العالَم، ربّما قد يكون انتهى ليل بني صهيون بدعمٍ لا محدود من الشرقِ والغرب، فيما دخلتْ بلادُ الأعاريب في ليلٍ مظلِمٍ دامس، وسيبدّدُ ظلمتَهُ جيلٌ جديد..جيل سارة أبنة الدكتورة سوزان أبو الهوى، وكلّ الأبناء والأحفاد الذين جاءَ الكتاب كذاكرةٍ للحفاظ على أعظم حبٍّ في الحياة..حبِّ الوطن.
Leave a Reply