نبيل هيثم – «صدى الوطن»
للمرة الأولى منذ سيطرته على مناطق شاسعة في العراق وسوريا قبل نحو ثلاثة أعوام، بدأ تنظيم «داعش» يستشعر الخطر على أهم معاقله في هذين البلدين، في الوقت الذي تتكثف فيه الجهود العسكرية، عبر أكثر من طرف ومحور، لاستعادة السيطرة على ثاني وثالث «عواصم» دولة أبي بكر البغدادي المزعومة.
وفي تزامن مثير للانتباه، اطلقت القوات العراقية المدعومة أميركياً، وقوات «الحشد الشعبي» المدعومة إيرانياً، عملية واسعة لاستعادة الفلوجة من سيطرة «داعش»، في حين مثلت الزيارة السرية لقائد القوات الأميركية في الشرق الأوسط الجنرال جوزيف فوتيل الى سوريا ضوءاً أخضرَ لانطلاق عملية تحرير الرقة، ورأس الحربة فيها «قوات سوريا الديمقراطية» المكوّنة من فصائل مسلحة كردية وعربية، والتي تحظى بدعم مزدوج أميركي وروسي.
وبصرف النظر عن الأجواء المرحبة والمشككة والمتحفظة تجاه المعركة المزدوجة ضد «داعش» في سوريا والعراق، إلا أنّ ثمة عوامل ترابط وتناقض تجمع وتفرّق بين الجبهتين المفتوحتين، فيما تبقى الموصل العاصمة الرئيسية والرمزية لـ«دولة الخلافة» محيّدة بانتظار جلاء غبار المعركتين الكبيرتين.
صحيح أن العلاقة بين الرقة والموصل من جهة، وبين الفلوجة والموصل من جهة ثانية، هي علاقة عضوية تشبه علاقة القلب بباقي أعضاء الجسد، إلا أن دخول أطراف متناقضة على خط المعركة المزدوجة لتحريرهما يحمل أبعاداً تتخطى المعركة ضد «داعش» نفسها.
ولا يخفف من هذا التناقض كون القوات الأميركية هي الجهة التي تتولى الإشراف على العمليات العسكرية في جبهتي الفلوجة والرقة، سواء عبر دعم قوات الحكومة العراقية أو عبر توفير الغطاء العسكري لـ«قوات سوريا الديمقراطية».
واذا كان الهدف من فتح معركة الفلوجة بالتزامن مع معركة الرقة يعني أن ثمة توجهاً لفرض ضغوط عسكرية على ارهابيي «داعش» لتشتيتهم ومنعهم من حشد المزيد من القوات في المدينتين السورية والعراقية، فإن التصريحات السابقة لهاتين المعركتين والمرافقة لهما، تعكسان حجم الصراعات على النفوذ في هذه الجبهة أو تلك والذي يمثل في الواقع تناقضات متعددة ومتشعبة قد يستفيد منها تنظيم أبي بكر البغدادي، سواء في هذه المعركة المزدوجة، او في «أم المعارك» المنتظرة، حين يُتخذ القرار بتحرير الموصل.
ويبدو واضحاً ان توقيت بدء معركة تحرير الفلوجة، مهد «داعش»، والسماح لقوات «الحشد الشعبي» بالمشاركة فيها، لا ينطلق من قرار عراقي-أميركي بإيلاء المدينة العراقية الأهمية التي تستحقها، بل من حسابات لها صلة بالاستعدادات الأميركية لتحرير الرقة من التنظيم الإرهابي، خصوصاً أن الرئيس باراك أوباما، الباحث عن ماء وجهه في سوريا، يبدو راغباً في بعث رسالة مفادها أنه قادر على توجيه ضربة قوية لـ«داعش» قبل انتهاء ولايته الرئاسية، بالاضافة الى أهداف أخرى، ابرزها قطع الطريق أمام الاندفاعة الروسية في سوريا، في محاولة لاطالة أمد الصراع، وفرض أجندة الحل الاميركية على موسكو ودمشق، عبر مشروع الفدرلة الآخذ بالتشكل في شمال وشرق سوريا.
وكان من اللافت أن موسكو التي شككت في انطلاق الهجوم باتجاه الرقة، أعلنت في الوقت ذاته احتمال حدوث تنسيق جوي بينها وبين الجيش الاميركي لتعزيز الهجوم على مواقع الارهاب في سوريا، بما في ذلك تلك التي يقوم بها الجيش السوري.
ويبدو أن كل الاطراف تتعامل مع معركة الفلوجة–الرقة باعتبارها مصيرية، فـ«داعش» يرى فيها معركة وجودية، وخسارتها تعني أن آخر معاقله -الموصل- سيكون مهدداً، في حين أن الانتصار في الرقة يعزز فكرة الفدرالية السورية، بالنسبة للأكراد والأميركيين على حد سواء.
وبصرف النظر عن نتائج المعركة المزدوجة، وحالة الانحسار التي يعيشها تنظيم «داعش»، فإنّ التحرك ضده يظل مرتبطاً بحسابات سياسية أكثر من عسكرية، فكل طرف يفكر في مرحلة ما بعد التنظيم وليس في هزيمته.
حتى أن تأخير اطلاق معركة الموصل، وقبلها الرقة والفلوجة، يعكس بوضوح تناقضات الصراع وأولويات القوى المحلية والإقليمية والدولية.
عرب وكرد وسنة وشيعة
ومع أن «قوات سوريا الديمقراطية» أعلنت عن بدء الحملة المرتقبة للهجوم على الرقة إلا أن التحديات تظل قائمة، فمعظم سكان المدينة السورية هم من العرب، في حين ان القوة المؤهلة لاستعادتها غالبيتها كردية. والمشكلة هي في دخول هذه القوات مدينة عربية، خاصة أن قوات حماية الشعب اتهمت في الماضي بعمليات تطهير عرقي في تل أبيض وريف الحسكة بعد تحريرهما من «داعش».
علاوة على ذلك، فإن الكثير من العرب لا يثقون بالأكراد الطامحين لإنشاء دولة مستقلة شمالي سوريا، في حين تتهم المعارضة السورية الأكراد بنسج علاقة غير مباشرة او ربما سرية مع نظام الرئيس بشار الأسد وروسيا. وبرغم محاولة الأميركيين الترويج لـ«قوات سوريا الديمقراطية» إلا أن الكثير من السوريين يرون فيها ورقة تين تخفي وراءها المستفيد الحقيقي من الدعم الأميركي وهي «وحدات حماية الشعب» الكردية. وما ينطبق على الرقة يمكن أن ينسحب على الفلوجة، فمن ضمن الاعتبارات التي اخرت اطلاق يد الجيش العراقي لاستعادة المدينة المحتلة من قبل «داعش» هو الطابع السني للمدينة الواقعة على بعد بضعة كيلومترات من بغداد. وتدرك الحكومة العراقية، وكذلك الولايات المتحدة، أن ثمة استحالة سياسية وعسكرية لتحرير الفلوجة من دون مشاركة «الحشد الشعبي»، المؤلف من فصائل عسكرية شيعية، لما يثيره هذا الامر من حساسية، لم توفرها السعودية التي تواصل العزف على أوتارها المذهبية.
ومن المؤكد ان مشاركة قوات «الحشد الشعبي» في عملية تحرير الفلوجة قد تنتج بشكل او بآخر تأجيجاً لمشاعر الحنق الطائفي والحساسيات الاقليمية، لا سيما بعد ظهور قائد «فيلق القدس» التابع للحرس الثوري الإيراني الذي ظهرت صوره في لقاء مع قادة من «الحشد الشعبي» عشية الهجوم على الفلوجة. وأما في الموصل، فتبرز عوامل أكثر تعقيداً، تتجاوز الخلاف السني–الشيعي، والعربي–الكردي، لا بل الكردي-الكردي، لتصل الى تصارع النفوذ بين ايران وتركيا، وكلها تناقضات ستتضح سريعاً منذ اليوم الاول للتحرير المرتقب للرقة والفلوجة… أو ربما قبل ذلك.
هكذا يمكن القول إن معركة تحرير الفلوجة والرقة، إذا ما سار مخططها وفق ما هو مرسوم له، سيدفع بالصراع الدائر في سوريا والعراق نحو صراع اقليمي دولي متعدد الاتجاهات.
قواسم مشتركة
ثمة تشابه مثير للانتباه بين مدينة الفلوجة العراقية ومدينة الرقة السورية، فهاتان المدينتان أصبحتا رمزا لتنظيم «داعش».
وكانت الرقة مثلما الفلوجة رمزاً للتمرد على الدولة، عبر تنظيمات إرهابية مسلحة، مُوّلت من قبل جهات إقليمية معروفة.
ومثلما في الفلوجة حيث ساعد بعض الأهالي والعشائر تنظيم «داعش»، رحّب الكثر من مكونات منطقة الرقة، بما في ذلك عناصر من «الجيش السوري الحر» بالتنظيم المتشدد، لا بل تحالفوا معه في مرحلة من المراحل.
وفي آب العام 2013، تمكّن «داعش» من طرد عناصر «الجيش السوري الحر» من مقر قيادتهم في الرقة. وفي الرابع عشر من كانون الثاني (يناير) 2014 سيطر التنظيم بشكل كامل على مدينة الرقة، قبل أن يتمكنوا من السيطرة بشكل كامل على المحافظة بعد انتزاع مطار الطبقة من قوات الجيش السوري. وسرعان ما فرض التنظيم سلطته وقوانينه على الرقة، مستخدما كل أساليب الترهيب.
وبعد أن فرض سيطرته على محافظة الرقة ومناطق أخرى من سوريا، لجأ «داعش» إلى الإعدامات الجماعية وقطع الرؤوس والاغتصاب والخطف والتطهير العرقي والرجم وغيرها من الممارسات الوحشية ما استدعى الأمم المتحدة إلى وصف هذه الممارسات بجرائم ضد الإنسانية.
وتتمتع مدينة الرقة بموقع استراتيجي في وادي الفرات عند مفترق طرق مهم. وهي قريبة من الحدود مع تركيا وتقع على بعد 160 كلم شرق حلب وعلى بعد أقل من 200 كلم من الحدود العراقية.
وكان عدد سكانها يبلغ نحو 220 ألفاً، أضيف اليهم بعد بداية الأحداث نحو 80 ألفاً من النازحين.
وفي العراق حيث الفلوجة، قرينة الرقة، فان المصادر الأمنية تؤكد إن أغلب العمليات الإرهابية التي تستهدف العاصمة بغداد، مصدرها من الفلوجة.
والفلوجة واحدة من أشهر مدن العراق، تقع في محافظة الأنبار، ويزيد تعدادها على 300 ألف نسمة. وخاض المسلحون في المدينة بين العام 2004 و2007 معارك ضارية مع الجيش الأميركي بعد مقتل أربعة من حراس وموظفي شركة «بلاك ووتر» وتم سحل جثثهم في الشوارع وحرقها وعلقت الجثث فيما بعد على جسر في أطراف المدينة يطل على نهر الفرات.
وتعرضت المدينة إلى أضرار في بناياتها وبنيتها التحتية خلال معركة الفلوجة الثانية التي شنها الجيش الأميركي، والتي قدرت بإلحاق أضرار في 90 بالمئة من مرافق وبنايات المدينة.
على أعتاب الفلوجة
زار رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي، يرافقه رئيس مجلس النواب سليم الجبوري، مقر عمليات الفلوجة ليشرفا بنفسيهما على سير عمليات تحرير المدينة.
وأعلن العبادي خلال زيارته أن هناك من يحاول «إنقاذ داعش»، مؤكداً أن الفلوجة آخر معاقل التنظيم في الأنبار.
وقال العبادي إن جميع القوات العراقية «مهتمة بتحرير الفلوجة والمناطق المجاورة».
وناشد رئيس الوزراء العراقي العراقيين «توخي الحيطة والحذر»، حيث أن مسلحي «داعش» «سيحاولون تنفيذ جرائم ومذابح ضد المدنيين».
أما رئيس البرلمان العراقي سليم الجبوري فقال عبر صفحته الرسمية على «فيسبوك»، إن «تحرير الفلوجة يمثل قيمة عليا وانطلاقة لتحرير بقية المدن التي يسيطر عليها الإرهاب وفي مقدمتها الموصل».
وعلى الرغم من غياب الدعم الجوي الأميركي تمكن الجيش العراقي والحشد الشعبي من عزل مدينة الفلوجة عن ناحية الكرمة وأكد وزير الداخلية العراقي محمد الغبان أن الجيش العراقي سيستكمل الطوق على المدينة تمهيداً لتحريرها من عناصر التنظيم.
تحرير الرقة مؤجل
من جهة أخرى، أكد المتحدث باسم تحالف «قوات سوريا الديمقراطية» طلال سلو، أن التحالف لا يعد لهجوم على مدينة الرقة في الوقت الحالي.
سلو قال إن مثل هذه العملية ليست وشيكة، مضيفاً أن «قوات سوريا الديمقراطية» تحركت لتحرير شمال الرقة فقط حالياً، لافتاً إلى أنه ما من توجه لتحرير مدينة الرقة، إلا ضمن حملة آتية بعد انتهاء هذه الحملة.
Leave a Reply