بقلم: صبحي غندور
هناك مخاوف مشروعة الآن على المستويين الأمني والسياسي من ظاهرة «داعش»، التي خرجت من وحل جماعات الإرهاب في سوريا لتمتدّ إلى العراق وتهدّد مصير كيانه ومعظم دول المنطقة. لكن عنصر التهديد هنا ليس نابعاً من القوة الذاتية فقط لهذه الجماعة الإرهابية، بل أيضاً من الخلط الذي يحصل حالياً بينها وبين قوى سياسية محلّية معارضة في كلٍّ من سوريا والعراق. فلو لم تكن هناك أزمات سياسية داخلية لما وجدت «داعش» بيئةً مناسبة لها للتحرّك ولضمّ عددٍ من المناصرين لها. فالمشكلة الآن هي لدى من يواجه ظاهرة «داعش» كجماعة إرهابية ويرفض معالجة أسباب انتشارها في بعض المناطق، وهي أيضاً مشكلة لدى من يراهنون على «داعش» لتوظيف أعمالها لصالح أجندات محلية أو إقليمية خاصة، بينما هم لاحقاً ضحايا لهذه الأعمال وسيحترقون أيضاً بنيرانها.
تساؤلات عديدة ما زالت بلا إجاباتٍ واضحة تتعلّق بنشأة جماعة «داعش» وبمَن أوجدها ودعمها فعلاً، ولصالح أي جهة أو لخدمة أي هدف!. لكن حين تتبرأ قيادة تنظيم «القاعدة» من «داعش» وممارساتها فهذا بحدّ ذاته يوضح مستوى أعمال الإرهاب والإجرام التي تمارسها «داعش». ومن هذه التساؤلات مثلاً: لِمَ كانت التسمية: تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» بما يعنيه ذلك من امتداد لدول سوريا ولبنان والأردن وفلسطين، وهي الدول المعروفة تاريخياً باسم «بلاد الشام»، وعدم ذكر تركيا أو الجزيرة العربية أو دول إسلامية وعربية أخرى، طالما أنّ الهدف هو إقامة «خلافة إسلامية»؟! أليس ملفتاً للانتباه أنّ العراق ودول «بلاد الشام» هي التي تقوم على تنوع طائفي ومذهبي وإثني أكثر من أيِّ بقعةٍ عربية أو إسلامية أخرى في العالم؟! ثمّ أليست هذه الدول هي المجاورة لـ«دولة إسرائيل» التي تسعى حكومتها الراهنة جاهدةً لاعتراف فلسطيني وعربي ودولي بها كـ«دولة يهودية»؟! ثمّ أيضاً، أليست هناك مصلحة إسرائيلية كبيرة بتفتيت منطقة المشرق العربي أولاً إلى دويلات طائفية وإثنية فتكون إسرائيل «الدولة الدينية اليهودية» هي الأقوى والسائدة على كل ماعداها بالمنطقة؟!. وأيُّ مصيرٍ سيكون للقدس وللشعب الفلسطيني ولمطلب دولته المستقلّة ولقضية ملايين اللاجئين الفلسطينيين في حال نشوب الحروب الأهلية العربية والإسلامية ونشوء «الدويلات» الدينية والإثنية؟!.
أليس كافياً لمن يتشكّكون بالخلفية الإسرائيلية لهذه الجماعات الإرهابية، التي تنشط بأسماء عربية وإسلامية، أن يراجعوا ما نُشر في السنوات الأخيرة عن حجم عملاء إسرائيل من العرب والمسلمين الذين تمّ كشفهم في أكثر من مكان؟! أليس كافياً أيضاً مراجعة دور إسرائيل خلال الحرب الأهلية اللبنانية، وكذلك العلاقات التي نسجتها منذ عقود مع جماعات في العراق، وهي تفعل ذلك الآن مع قوى معارضة في سوريا؟!.
فمن المهمّ التوقّف عند ما حدث ويحدث في المنطقة العربية وخارجها من أعمال عنف مسلّح تحت مظلّة دينية وشعارات إسلامية، وما هو يتحقّق من مصلحة إسرائيلية كانت أولاً، في مطلع عقد التسعينات، بإثارة موضوع «الخطر الإسلامي» القادم من الشرق كعدوٍّ جديد للغرب بعد اندثار الحقبة الشيوعية، وفي إضفاء صفة الإرهاب على العرب والمسلمين، ثمّ فيما نجده الآن من انقسامٍ حاد في المجتمعات العربية وصراعاتٍ أهلية ذات لون طائفي ومذهبي وإثني. فلم تكن بصدفةٍ سياسية أن يتزامن تصنيف العرب والمسلمين في العالم كلّه – وليس بالغرب وحده – بالإرهابيين، طبقاً للتعبئة الإسرائيلية التي جرت في التسعينات، مع خروج أبواق التعبئة الطائفية والمذهبية والعرقية في كلّ البلاد العربية، ففي كلّ بلد عربي، بل في كلّ مدينة عربية، هناك (مسجد ضِرار) يريد القيّمون عليه إبقاءه لكن مع هدم وتقسيم كلّ ما حوله!!.
ذلك كلّه يحصل في غياب المفاهيم الصحيحة للمقاصد الدينية ولاختلاف الاجتهادات في الإسلام، حيث أصبح سهلاً استخدام الدين لتبرير العنف المسلّح ضدَّ الأبرياء والمدنيين، وأيضاً لإشعال الفتن المذهبية والطائفية. وسوء كلا الأمرين يكمّل بعضه بعضاً، لكن هل يجوز إلقاء المسؤوليّة فقط على «الآخر» الأجنبي أو الإسرائيلي فيما حدث ويحدث في بلاد العرب من فتن وصراعات طائفيّة؟! أليس ذلك تسليماً بأنّ العرب جثّة هامدة يسهل تمزيقها إرباً دون أي حراك أو مقاومة؟ إنّ إعفاء النّفس العربيّة من المسؤوليّة هو مغالطة كبيرة تساهم في خدمة الطّامعين بهذه الأمّة والعاملين على شرذمتها، فعدم الاعتراف بالمسؤوليّة العربيّة المباشرة فيه تثبيت لعناصر الخلل والضّعف وللمفاهيم الّتي تغذّي الصّراعات والانقسامات. إنّ غياب الولاء الوطني الصّحيح في معظم البلاد العربيّة مردّه ضعف مفهوم الانتماء للوطن وسيادة الانتماءات الفئويّة القائمة على الطّائفيّة والقبليّة والعشائريّة. ويحصل الضّعف عادةً في الولاء الوطني حينما لا تمارس «المواطنة» السليمة وعندما تنعدم المساواة بين المواطنين في الحقوق السّياسية والاجتماعيّة. أيضاً، إنّ غياب الفهم الصّحيح للدّين والفقه المذهبي وللعلاقة مع الآخر أيّاً كان، هو البيئة المناسبة لأي صراع طائفي أو إثني يُحوّل ما هو إيجابي قائم على الاختلاف والتنوّع والتّعدّد إلى عنف دموي يُناقض جوهر الرّسالات السّماويّة والحكمة من خلق البشر شعوباً وقبائل مختلفة!
لقد حقق «نفخ» تنظيم «القاعدة» أهدافه بعد أحداث أيلول (سبتمبر) 2001، وشهدنا حروباً ومتغيّراتٍ سياسية وأمنية في أمكنة واتجاهات مختلفة، وكان الحديث عن «القاعدة» وكأنّها شبحٌ جبار يظهر ويتحرّك في أرجاء العالم كلّه من أجل تبرير الحروب والمتغيّرات. الآن، يتكرّر المشهد نفسه مع تنظيم «داعش»، ولا نعلم بعد أين وكيف سيتمّ توظيف توأم «القاعدة»، لكن الممكن إدراكه هو أنّ هذه الظاهرة مصيرها الاضمحلال، فهي حركة هدم في الحاضر، لا من أجل بناء مستقبل أفضل، وهي بفكرها وممارساتها ستجعل مناصريها قبل خصومها أول من يواجهها ويحاربها، وهي قد تخدم الآن مشاريع جهاتٍ متعدّدة، لكن سيتّضح عاجلاً أم آجلاً خدمتها للمشروع الإسرائيلي فقط الذي لا يرحم أحداً غيره.
حبّذا لو تكون هناك مراجعات عربية ودولية لتجارب معاصرة في العقود الثلاثة الماضية كان البعض فيها يراهن على استخدام أطراف ضدّ أطرافٍ أخرى، فإذا بمن جرى دعمه يتحوّل إلى عدوٍّ لدود. ألم تكن تلك محصّلة تجربة «العرب الأفغان»، خلال الحرب على الشيوعية في أفغانستان، حيث كانت نواة «القاعدة» تولَد هناك؟! ثمّ ألم يكن ذلك درس دعم نظام صدام حسين في حربه على إيران حيث انقضّ على الكويت فور انتهاء الحرب وهددّ السعودية والإمارات العربية؟! وهو درسٌ يتعلّمه الآن أيضاً مَن راهن مِن المعارضة السورية على جماعات «النصرة» و«داعش» ورفضوا التوصيف الأميركي المبكر لهذه الجماعات بأنّها مجموعات إرهابية، فإذا بهم يدفعون الثمن غالياً نتيجة هذه المراهنة الخاطئة.
إنّ تنظيم «داعش» مصيره الانحسار والضمور مهما ازداد مؤخّراً قوّةً في العدد والمال والعتاد، فهو كمثل أساليبه الانتحارية يحمل متفجّراتٍ تطيح به وبمن حوله. لكن يبقى السؤال من هم الضحايا المحتمل حدوثهم لحظة وقوع التفجير! هل هي جماعات بشرية محدودة فقط أم أوطان وشعوب ومصالح دول؟!. الإجابة هي عند عموم العراقيين والسوريين وكل شعوب المنطقة بأن ترفض هذه الشعوب نحر أوطانها وأنفسها معاً لصالح غايات لا تمتّ بصلة إلى حقوق فئات أو طوائف أو حتّى حكومات ومعارضات.
إنَّه «زمن إسرائيلي» ينتشر فيه وباء «الإسرائيليّات» وتقلّ فيه المضادات الحيويّة الفكريّة والسياسيّة، وتنتقل فيه العدوى سريعاً، ويُصاب به «بعض الأطبّاء» أحياناً فتجتمع العلّة في الطبيب والمريض معاً!! هذا «الوباء الإسرائيلي» لا يعرف حدوداً، كما هي دولة إسرائيل بلا حدود، وكما هم العاملون من أجلها في العالم كلّه. لكن المشكلة لم تكن ولن تكون في وجود «الوباء»، بل هي بانعدام الحصانة والمناعة، وفي انعدام الرّعاية الصحيّة الفكريّة والسياسية داخل الأوطان العربيّة وبلدان العالم الإسلامي، وفي الجهل المقيت بكيفيّة الوقاية والعلاج بل حتّى في رصد أعراض مرض الانقسامات الطائفية والمذهبية.. وسهولة انتشاره!.
Leave a Reply