نبيل هيثم
بات من الصعب تحديد وصف دقيق لما يقوم به تنظيم «الدولة الاسلامية في العراق والشام – داعش» في الاماكن التي فرض سيطرته عليها منذ رمضان الماضي، فقد فاقت ارتكاباته للجرائم الكبرى كل الاوصاف.
العالم كله يراقب عن بعد، ولا يحرّك ساكنا، واقصى ما يبدر عنه تلك الاسطوانة الاعتراضية اللفظية، على مذابح دولة الخلافة الداعشية التي ترتكب في المناطق التي سيطرت عليها في العراق وسوريا.
العالم يراقب قطع الرؤوس، الى حد التواطؤ، فيما هذا التنظيم يطلق العنان لمزيد من المجازر، ويسعى الى التمدد الى مناطق اخرى، وها هو ينقل سكينه الى لبنان لحرب باتت مفتوحة على احتمالات بالغة الخطورة على هذا البلد الصغير المعقد في تركيبته ومكوناته السياسية واقلياته المذهبية.
العالم يراقب، ودولة الخلافة الداعشية تدخل المنطقة كلها بينما بات يعرف «جحيم الاقليات»، فلبنان صار مهددا في كيانه، لا بل في أصل وجوده، وقبله سوريا، سقطت في بحر الدم والدمار، والسكين الداعشي يحزّ اينما وقع فيها، فلا فرق في الذبح بين العلوي، والدرزي والشيعي وحتى السني، واما العراق فسقط في هاوية صار الخروج منها اقرب الى ضرب من الخيال، تقطعت اوصاله الجغرافية، واستحال مربعات مذهبية آيلة للانفجار مع كل اشراقة شمس.
العالم يراقب، والعراق على المقصلة الداعشية اليومية، فعملا بأحكام شريعة دولة الخلافة اقيم على الشيعة الحد وذبحوا، وطرد المسيحيون ويكاد اثرهم يمحى في هذا البلد، ومن بقي منهم فرض عليه ان «يؤسلم» بالسيف، واما سائر الاقليات الاخرى فالمحظوظة منها قد يقدّر لها ان تحمي نفسها باليسير من القدرات والسلاح، واما الاقليات العاثرة الحظ فقد دخلت في جحيم فعلي وفاقت عمليات القتل الوحشية التي تقوم بها عناصر «داعش»، قدرتها على التحمل. وها هي الاقلية «الإيزيدية» مهددة بأن تقتلع من ارض العراق وتلقى المصير نفسه الذي آل اليه المسيحيون الموصل. هنا، وبحسب الميثولوجية الايزيدية فإنّ معبد لالش، او قبلة الايزيديين في شمال العراق، هو «خميرة الأرض وأول موضع استقرت به الملائكة».
ولعل هذه المقولة تفسر تعلق الايزيدية بفكرة المكان وتقديسه، وارتباط اتباع هذه الديانة بالارض التي احتضنتهم على مر العصور، برغم حملات الابادة المنظمة التي تعرضوا لها خلال القرون المنصرمة.
تلك المقولة تفسّر أيضاً قيام قوات «البشمركة» الكردية، القريبة من الإيزيديين عرقياً، الى الإسراع في شن حملة عسكرية واسعة رداً على «الغزوة» التي نفذها تنظيم «داعش» في سنجار، والتي كانت نتيجتها تكرار سيناريو تهجير المسيحيين في الموصل، عبر استهداف الايزيديين في تلك المنطقة الجبلية التي تتقاطع مع الحدود السورية العراقية التركية.
فالحفاظ على المكان، بالنسبة الى أقليات مثل الايزيديين والاكراد، هو حفاظ على الهوية، وخطر القضاء على واحدة من اقدم الأقليات الدينية في المشرق العربي يعني بشكل او بآخر ان شبح الاندثار يواجه كافة الاقليات، بما في ذلك الاقلية الكردية.
ولعل ما جرى في شمال العراق خلال الاسبوع الماضي قد عزز هواجس الاقليات المشرقية، فآلاف الإيزيديين يهيمون اليوم بين مخيمات اللجوء في اقليم كردستان، وفي جبال قضاء سنجار، معقلهم التاريخي، بعدما هُجّروا من قراهم التي اجتاحها تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» وعاث فيها تخربياً وقتلاً.
وعلى غرار ما حدث في مناطق اخرى في العراق وسوريا، كالموصل والرقة وغيرهما، شن تنظيم داعش يوم الاحد الثالث من آب الحالي هجوماً كبيراً على اقليم سنجار، وتمكن من احتلال مناطق واسعة فيه، بعدما اضطرت قوات «البشمركة» الكردية إلى تنفيذ انسحاب وصفته بـ«التكتيكي».
وعلاوة على الاهداف الجيو استراتيجية لـ«داعش»، الطامح للسيطرة على كامل الشريط الحدودي بين العراق وسوريا، ومن ثم توسيع رقعة نفوذه باتجاه الحدود الدولية بين العراق وتركيا من جهة، والحدود الفدرالية لاقليم كردستان العراق، بدا ان للتنظيم الداعشي اهدافاً اخرى تندرج ضمن اطار فهمه الشاذ لتعاليم الاسلام، وهو تطهير «دولة الخلافة» المزعومة من كافة الاقليات الدينية، ومن بينها الإيزيديين، الذين يطلق عليهم الإسلاميون المتشددون صفات من بينها «الكفار» و«عبدة الشيطان».
وعلى عادتهم، فجر متشددو «داعش» مزار شرف الدين الذي يعد من أهم المقامات المقدسة لدى الايزيديين في سنجار. ويقع المزار على بعد نحو عشرة كيلومترات من مركز ناحية سنوني التابعة لقضاء سنجار، و65 كيلومتراً عن مركز القضاء. ويعد تفجير المزار، الذي بني قبل نحو 700 سنة في المكان الذي نزل عنده شرف الدين وأصحابه، والذي يضم معبداً تم بناؤه في العام 1274، واحدة من الجرائم التي ترتكبها ميليشيات «داعش» بشكل ممنهج ضد التراث الانساني،
ومعروف ان تدمير المزارات والأضرحة يتوافق مع النهج الذي يتبعه المتشددون حيث يعتبرونه «شركاً».
ومن البديهي أن تثير هذه التطورات المقلقة جملة من التساؤلات حول مستقبل وجود الايزيديين والبحث عن التدابير العاجلة لحماية هويتهم المهددة والأخذ بنظر الإعتبار مخاطر المرحلة الحاسمة التي يمرون بها، مع العلم بأن تلك الكارثة الانسانية لا تقتصر على الايزيديين، حيث يجهل مصير الاف اللاجئين من التركمان الشيعة الذين فروا من قضاء تلعفر المجاور واتخذوا من سنجار ملجأً لهم.
ولعلّ هذا ما دفع بالكثيرين إلى اطلاق النداءات المحلية والعالمية للوقوف في وجه تلك الكارثة التي تطال البشر والحجر.
أمير «الإيزيدية» في العراق والعالم تحسين سعيد، دعا الى اغاثة دولية لسكان قضاء سنجار الذين فروا إلى الجبال القريبة بعد سيطرة «داعش» على القضاء. اما محافظ نينوى أثيل النجيفي فوجه نداء استغاثة إلى كل العالم معلنا عن أكبر كارثة إنسانية في هذا العصر تحدث الآن في جبل سنجار نتيجة لتخلي العالم عن حماية الإيزيدية.
إذا، مع السطوة الداعشية، تدخل الأقلية الإيزيدية في العراق في صراع من أجل البقاء… وهو ليس الصراع الأول، فالروايات الإيزيدية تتحدث عن 72 فرمانا بالإبادة من قبل دولٍ وجهات متعددة. وهذا صحيح إلى حد بعيد، فقد تعرض الإيزيديون ومناطقهم خلال ثمانية قرون إلى عشرات الغارات والقتل والتهجير على يد الحكام المحليين والولاة العثمانيين، ناهيك عن حملات القتل والتنكيل التي تعرضوا اليها طوال اربعة آلاف عام. لكن ما يختلف اليوم ان ابادة ما تبقى من ايزيديين تعكس خطراً وجودياً يطال كل الاقليات الدينية والعرقية في منطقة لطالما اتسمت بالتنوع، وها هي اليوم تفقد ميزتها تلك، ليداهمها تهديدان لا يقل احدهما خطورة عن ثانيهما: الدولة الدينية الشمولية… او الدويلات العرقية والمذهبية المشتتة.
هؤلاء هم الإيزيديون؟
الايزيديون هم من اتباع ديانة قديمة في الشرق الاوسط تعود الى اكثر من اربعة آلاف سنة، وتعيش غالبيتهم قرب الموصل وجبال سنجار في العراق يصل تعدادهم الى حوالى 300 الف، في حين تعيش مجموعات أصغر في تركيا نحو500 شخص وسوريا 30 الف شخص وإيران وجورجيا وأرمينيا وباقي دول الشتات.
وفي العراق، يعيش معظم الإيزيديين في الشمال، وتحديداً في قضاء سنجار والمناطق المجاورة له.
والايزيدية مزيج من ديانات عدة مثل اليهودية والمسيحية والاسلام والمانوية والصابئة ولدى اتباعها طقوس خاصة بهم ويشتهرون بصناعة الكحول والحلويات. وقبلتهم هي «لالش» في شمال العراق، حيث الضريح المقدس للشيخ أدي، فيما يعتبر الأمير «تحسين بك» من كبار شخصيات الديانة الايزيدية في العراق والعالم اجمع.
وينتمي الإيزيديون إلى اصول كردية، حيث ينحدرون من اقوام هندو أوروبية. ومع ذلك، فإنهم متأثرون بمناخ التنوع الذي لطالما اتسم به المشرق العربي تاريخياً، ففي ثقافتهم تأثيرات عربية واشورية وسريانية، وهو ما يتبدّى بشكل خاص في زيهم، الذي يقترب من الزي العربي عند رجالهم، والزي السرياني عند نسائهم، او في ازدواجية لغتهم، حيث يستخدمون الكردية في صلواتهم وادعيتهم، والعربية في حياتهم اليومية.
أصول الديانة الإيزيدية
ولدت الإيزيدية في بلاد ما بين النهرين منذ أكثر من أربعة ألاف عام، وهي تعد من بين أقدم الديانات في العالم.
تجد الايزيدية جذورها في الزردشتية، لكنها اختلطت على مر الزمان بالمسيحية والاسلام.
ويعتبر التوحيد أحد الأسس الثابتة في هذ الديانة التي يصلي أتباعها ثلاث مرات متوجهين إلى الشمس.
وتعتقد الايزيدية بوحدة الوجود، وبان المادة و الروح متلازمان منذ الازل ولا يثار لديهم سؤال ايهما الاولى الروح ام المادة، لان كلمة (خودى خودابي) تعني الذي خلق نفسه، و كلمة (ايزيدي – ازداي) تعني عباد الله.
اما التعرف إلى الله و التقرب منه فيكون عن طريق القلب والمشاعر والعقل، ولذلك لا يحتاج الايزيديون الى رسول يدلهم على خالقهم.
وتعتقد الايزيدية بوجود عالمين الاول مرئي وهو العالم الفاني والثاني غير مرئي و هو العالم الطاهر الباقي.
ويؤمن الايزيديون بوجود سبعة ملائكة خلقوا من نور الله، وأن “طاووس ملك” هو رئيس الملائكة. ويعتقد الأيزيديون بأن الملك جبرائيل «طاووس ملك» هو «انبعاث من ذات الله وملازم لله في حفظ العالم من الشرور»، و«يستمد قوته من الله الذي لا شريك له».
ولكن المتشددين يعتبرون «الطاووس ملك» رمزاً لإبليس ويتهمون الإيزيديين بـ«عبادة الشيطان»، وذلك في إطار الاقاويل الخاطئة وغير الدقيقة والمغرضة في احيان كثيرة.
وتعتبر الإيزيدية ديانة غير تبشيرية، أي أنها لا تقبل في صفوفها من كان على دين آخر.
وينقسم الإيزيديون إلى اربع طبقات دينية (الامراء، الشيوخ، البير، والمريدون)، لا يجوز التزاوج بينها، كما لا يجوز زواج الإيزيدي من أتباع الديانات الاخرى.
ومن معتقداتهم القديمة تحريم أكل الخس وإرتداء اللون الازرق.
ونزول الملك جبريل على الارض يصادف أول أربعاء من نيسان، وفق التقويم الشرقي، لذلك يحتفلون بعيد رأس السنة في هذا اليوم. وإلى جانب عيد رأس السنة الذي يسمونه «سرى صالي»، يحتفل الايزيديون بعيد كبير ثان هو «عيد الجماعية» الذي يستمر أسبوعا أيضا في تشرين الأول.
اضطهاد تاريخي
تعرض الإيزيديون للاضطهاد على مر التاريخ على خلفية فتاوى التكفير والخروج عن الدين. وبدأ مسلسل الاضطهاد ايام الخلفية العباسي المعتصم، واستمر منذ القرن السادس عشر وحتى يومنا هذا.
وفي الآتي أبرز المحطات التاريخية في هذا الإطار:
– في العام 1246 اول اعتداء على الايزيديين من قبل صاحب الموصل بدرالدين لؤلؤ الذي قام بقتل أحد أبرز الزعماء الروحيين للإيزيدية وهو شيخ حسن، ودمر إمارته، وقتل وشرد أتباعه، فتفرق الكثيرون منهم في أنحاء كردستان، ورحل بعضهم إلى أراضي حلب والشام.
– في العام 1571 شن سليمان باشا والي بغداد حملة على سنجار، وقتل ألف رجل، وخلف الكثير من الدمار.
– في عام 1638 قاد أحمد باشا العثماني حملة على جبل سنجار، وقتل 13 ألف رجل إيزيدي، وسبى آلاف النساء و الأطفال.
– في عام 1786 أغار عبد الباقي باشا والي الموصل على عشيرة دنا الإيزيدية، وقتل منها أكثر من مائة رجل وشرد الكثير منهم.
– في عام 1799 هاجم والي الموصل مع عدد من العشائر العربية قرى الإيزيدية في شيخان، فقتلوا منهم الكثير، وبيع الأطفال والنساء في سوق الموصل.
– في العام 1807 أقدم حاكم الموصل نعمان باشا على القيام بمذبحة كبيرة للإيزيديين في شيخان.
– بين العامين 1915 و1918 تعرض الايزيديون للتشريد من قبل العثمانيين ابان مذابح الأرمن.
– في العام 1935: شن الجيش الملكي العراقي حملة واسعة استهدفت الايزيديين في مناطقهم وقتل منهم المئات.
– في العام 2007: صدرت فتاوى ودعوات إحلال هدر دم الإيزيديين من قبل التيارات الاسلامية المتشددة، وقد عرفت هذه الاحداث بـ«نكبة سنجار» وراح ضحيتها مئات القتلى.
Leave a Reply