نبيل هيثم – «صدى الوطن»
لا أحد في مأمن بعد الآن. تلك هي الرسالة التي اراد تنظيم «داعش» توجيهها من خلال التفجيرات التي ضربت السعودية الأسبوع الماضي. وقبلها تركيا.
ليس مفاجئاً أن يعمد التنظيم الإرهابي إلى شن سلسلة من التفجيرات في مناطق عدّة، سواء في الوطن العربي، أو في الغرب، لا سيما في الأيام العشرة الأواخر من رمضان، وهو الشهر الذي يحمل رمزية خاصة لدى اتباع أبي بكر البغدادي، نظراً الى كونه شهر إعلان «الخلافة» المزعومة.
ولكن المستغرب، بالنسبة إلى كثيرين، أن يستهدف التنظيم المتشدد اثنين من رعاته الإقليميين وبفاصل زمني لا يتعدى الأيام، وذلك بـ«غزوتين» أولهما في تركيا والثانية في السعودية، وفي أماكن ظلت بعيدة عن التفجيرات في الماضي، كما هي حال مطار أتاتورك في اسطنبول، والمدينة المنوّرة وجدّة.
ولكن نظرة أكثر عمقاً للعلاقة الملتبسة بين نظام آل سعود والجماعات الإرهابية، تجعل الهجمات «الداعشية» في السعودية أمراً غير مفاجىء لا بل متوقعاً.
تاريخ زاخر بالإرهاب
لعلّ التاريخ يحوي الكثير من التجارب في هذا الإطار، وهي تجارب تعود إلى مرحلة تأسيس المملكة السعودية، في الربع الأول من القرن العشرين، حين اصطدم الملك عبد العزيز آل سعود بجماعة وهابية كانت تعرف بـ«الإخوان» أو «إخوان من أطاع الله»، حين باتت تشكل خطراً على عهده الوليد، بعدما رعاها واستعان بها للسيطرة على مناطق واسعة في شبه الجزيرة العربية. الأمر نفسه ينطبق على جماعة «الإخوان المسلمين»، التي اسسها المصري حسن البنا، والتي حظيت بدعم غير محدود من قبل نظام آل سعود، وعلى حقبات متعددة، إلى أن باتت بدورها مصدر تهديد للعرش السعودي.
ورب قائل أن هاتين التجربتين كان يمكن ان تشكلان درساً لكل ملوك آل سعود، ولكن الواقع يشي بعكس ذلك، فلم تكد تمضي عقود قليلة، حتى بدأ نظام الحكم في السعودية في دعم أشد الجماعات الوهابية تطرفاً، والمقصود بذلك تنظيم «القاعدة»، الأب الشرعي لتنظيم «داعش»، قبل أن ينقلب السحر على الساحر.
ولا يخفى على أحد أن السعودية عملت بشكل حثيث، وعلى الأقل منذ الاجتياح السوفياتي لأفغانستان في أواخر السبعينات من القرن المنصرم، لتقوية الجماعات المتشددة، وعلى رأسها تنظيم «القاعدة» الذي كان يتزعمه أسامة بن لادن، الذي كان يعد أحد ابرز الشخصيات الاقتصادية والسياسية في المملكة السعودية.
على هذا الأساس، تحوّلت السعودية، منذ ذلك الوقت، الى أحد أطراف «توزيع الادوار» التي وضعها مستشار الأمن القومي الأسبق زبغنيو بريجنسكي، وهو ما يرويه الكاتب الراحل الاستاذ محمد حسنين هيكل في سلسلة «دفاتر الأزمة»، وتحت عنوان «أميركا تؤذن للجهاد في كابول»، وفيه: «أن بريجنسكي خطا خطوة في عرض تصوراته على الرئيس جيمي كارتر، ومجلس الأمن القومي في البيت الأبيض، فتقدم باقتراح لتوزيع مسؤوليات الجهاد الإسلامي المُبتَغى في مرحلة جديدة على أدوار رئيسية ثلاثة»، أولها لباكستان، وثانيها للسعودية، وثالثها لأنور السادات.
زعامة السعودية
وفي ما يتعلق بالسعودية في تلك الفترة، يقول هيكل: «كان تقدير بريجنسكي أن الرياض جاهزة (للعب الدور) بدليل أنها ساعدت، ولا تزال تساعد، في عملية إحراج السوفيات عبر أفغانستان، فإذا أصبح الإحراج (جهادا إسلاميا) داخل أفغانستان ذاتها، فإن السعودية سوف تكون أكثر من مستعدة، خصوصا أنها مهتمة بدور متميز في قيادة العالمين العربي والإسلامي، لأن غياب مصر بعد صلحها مع إسرائيل ترك الساحة العربية خالية وبالتالي مهيأة لدور تستطيع المملكة أن تقوم به، فإذا جمعته إلى دورها القيادي في منظمة المؤتمر الإسلامي، وزادت عليه وضعها داخل منظمة «أوبك»، فقد أصبحت رسمياً وفعلياً دولة الرجاء والأمل عربياً وإسلامياً».
ويتابع «وإذا أضافت الرياض إلى هذه القائمة دعوة جهاد مقدس ضد الإلحاد، فإن ذلك يوفر لها ظروفا مثالية، لأنه يعطيها القيادة العربية الإسلامية دون أن يفرض عليها بالضرورة أن تتحمل مسؤولية المواجهة مع إسرائيل، وهي مسؤولية تخشاها وتحاذر يوما أن تجد نفسها وجها لوجه أمامها. وفي ظروف عادية فقد كان شبه مؤكد إذا أصبحت المملكة هي القيادة المُعترف بها في العالم العربي والإسلامي أنه سوف يقع استدعاؤها بهذه الصفة إلى فلسطين، لكنها حين تستبق استدعاء فلسطين بدعوة إلى أفغانستان جهادا من أجل الإسلام فإنها بذلك تضع نفسها في موقف إسلامي يصعب على أحد أن يطلب منها زيادة عليه».
يمكن قياس كل ذلك، على ما حاولت السعودية القيام به في سوريا والعراق، حين دعمت السعودية، وتحديداً عبر محمد بن نايف، كل حركات التمرّد الجهادية، بما في ذلك تنظيم «داعش» و«جبهة النصرة»، وأخواتهما، في صراع دام، أنسى العرب والمسلمين ما كان يعرف بـ«القضية المركزية»، أي قضية فلسطين، وجعل نظام آل سعود أكثر قدرة على المناورة في ما يتعلق بالتملص من الانخراط الشكلي في الصراع العربي الاسرائيلي، ويمنحها حرية اكبر للعمل تحت الطاولة وفوقها لإقامة علاقات طبيعية تدريجية مع الكيان الصهيوني، تحت ذريعة مواجهة الخطر الإيراني.
ولعل كل ما تقدّم يؤكد، بشكل كبير، مدى استفادة السعودية من تنامي الحركات الإرهابية في الوطن العربي، ويسقط بعض النظريات القائلة بأن الدعم السعودي للجماعات الجهادية ليس رسمياً، وإنما عبر قنوات موازية، توفر الدعم المادي لـ«داعش» واخواتها (جمعيات خيرية اسلامية ونافذين سعوديين)، وتؤمن لها الركيزة الايديولوجية المتمثلة بالوهابية (المؤسسة الدينية الحليفة لآل سعود في المملكة).
الفتنة الجهادية
وليس أقل دلالة على وجود دعم مباشر من قبل نظام آل سعود لتكفيريي «داعش»، ما قاله المتحدث باسم التنظيم المتشدد أبو محمد العدناني، في آخر رسائله الصوتية (أيار 2016)، حين اتهم «نظام آل سلول»، على حد وصفه، بتقديم الدعم المباشر لـ«جبهة النصرة»، التي تعد الغريم الأول لتنظيم «الدولة الاسلامية» في سوريا، وهو ما دفعه الى توعد النظام السعودي قائلاً «وبشروا آل سلول بما يسوؤهم قريباً بإذن الله فإنهم أول المهزومين إن شاء الله».
ولعل نظرة سريعة على مجريات الأمور في سوريا، خلال السنوات الثلاث الماضية، وتحديداً تطورات ما بات يعرف بـ«الفتنة الجهادية» بين الفصائل الإسلامية في سوريا، تظهر ما أصاب العلاقة بين «داعش» والسعودية من توتر، بعد فترة طويلة من المهادنة، لا بل الدعم، الذي اقر به احد افراد العائلة الحاكمة الأمير الوليد بن طلال، ولو بشكل غير مباشر، حين قال، في مقابلة مع الاعلامية الأميركية كريستيان أمانبور، انه «عندما اندلعت الحرب في سوريا دعمت السعودية ودول الخليج والعديد من دول العالم كل تلك الجماعات التي كانت تحاول إسقاط النظام هناك، لكن للأسف نتج عن هذا الدعم ولادة داعش».
وللتذكير، فإن السعودية ظلت في مأمن عن الهجمات الداعشية، سواء العمليات الإرهابية المباشرة أو الهجمات الكلامية، حتى بعد وقت طويل من اندلاع «الفتنة الجهادية»، فأول تهديد تلقاه نظام آل سعودي من قبل «داعش» كان في أواخر العام 2015، أي بعد سنتين على الاندماج الكبير الذي حصل بين الجناحين السوري والعراقي في هذا التنظيم الإرهابي، حين خرج ابو بكر البغدادي شخصياً ليتساءل: «أين نصرة آل سلول وحلفائهم لمليون مسلم مستضعف يبادون في بورما عن بكرة أبيهم، وأين نخوتهم تجاه براميل النصيرية ومدافعهم.. لقد فضح حكام الجزيرة وانكشفت سوأتهم وفقدوا شرعيتهم المزعومة واتضحت خيانتهم حتى على عوام المسلمين وظهروا على حقيقتهم».
ويمكن من خلال تلك الكلمات الاستخلاص أن ثمة علاقة كانت قائمة وانفضت بين تنظيم «داعش» ونظام آل سعود، لاسيما في استخدام البغدادي عبارات من قبيل «أين نصرتهم» و«أين نخوتهم» و«اتضحت خيانتهم» و«فقدوا شرعيتهم المزعومة»… الخ.
وفي كلمته الاخيرة، كان العدناني أكثر وضوحاً في كشف سبب العداء المستجد بين تنظيم «جهادي» مثل «داعش»، وبين نظام آل سعود. ومربط الفرس في هذا الإطار، هو اتهام «داعش» للسعودية بدعم الفصائل الجهادية المنافسة، وأبرزها «جبهة النصرة» و«احرار الشام». ولكن الأخطر في كلمة العدناني، كان الهجوم غير المسبوق على مشايخ هيئة كبار العلماء المسلمين (الوهابيين) في السعودية، الذين نعتهم، من دون ان يسميهم مباشرة، بانهم «حمير العلم، علماء السوء والدولار، وهيئة السحرة الكبار»!
هكذا يعيد التاريخ نفسه. بالأمس القريب، انقلب تنظيم «القاعدة» على نظام آل سعود، نتيجة لضغوط اميركية. واليوم يتكرر الامر ذاته مع تنظيم «داعش». وفي المحطتين قاسم مشترك هو أن استراتيجية التنظيمين الإرهابيين، اللذين ولدا من رحم النظام السعودي-الوهابي (بجناحيه السياسي والديني) تقود حكماً إلى التشكيك بشرعية نظام آل سعود، وهو ما افصح عنه البغدادي نفسه، وكرّسته التفجيرات الأخيرة، التي اختيرت أماكنها بدقة فائقة: مدينة جدة التي تعد رمز الحكم السعودي، ومدينة القطيف ذات الاغلبية الشيعية، القنصلية الاميركية في مدينة جدة… والحرم النبوي الشريف ساعة الافطار في المدينة المنورة، وهي اشد الرسائل «الداعشية» صرامة بأن لا مكان آمناً بعد اليوم في المملكة، بما في ذلك المناطق المقدسة، الذي بدا الهدف منه التأكيد على ان العائلة السعودية المالكة لا تستحق لقب «حامي الحرمين الشريفين»، طالما أنها ليست قادرة على حماية الأماكن المقدسة!
ثلاث غزوات انتحارية تهزّ السعودية
ثلاث عمليات انتحارية ضربت السعودية في أقل من 24 ساعة.
اللافت في الأحداث الأخيرة التي وقعت الإثنين الماضي، انتقاء المنفذين لزمان عملياتهم وأمكنتها. ويبدو أن قرار توسيعهم رقعة استهدافهم للسعودية قد اتُّخذ فعلاً، بعد أن كان مقتصراً على المنطقة الشرقية ومحصوراً فيها، فتعدّت وطاولت الحرم النبوي في المدينة المنورة، والقنصلية الأميركية في مدينة جدّة.
وأراد المنفذون توجيه رسائل من خلال التوقيت، فاستهداف القنصلية الأميركية جاء عشية عيد استقلال الولايات المتحدة، أما التفجيران الآخران، فوقعا عشيّة عيد الفطر.
ووقع تفجيران في وقتٍ واحد، الأوّل في مدينة القطيف شرقي البلاد، أما الثاني ففي وسطها، في المدينة المنورة.
وأفادت وسائل إعلامية عدّة بأن انتحارياً فجّر نفسه في موقف سيارات تابعٍ لقوات الطوارئ، بالقرب من الحرم النبوي في المدينة المنورة. وفي حصيلةٍ أولية، أدى الهجوم إلى مقتل الانتحاري وأربعة رجال أمن سعوديين.
وبثت القنوات التلفزيونية السعودية لقطات مصورة لموقع التفجير، ظهر فيها اشتعال النيران في عدد من السيارات، فيما تناثرت أشلاء شخص على الأرض. وأشارت القنوات إلى أن التفجير الذي وقع ساعة الإفطار، هو الأول من نوعه في منطقة قريبة من المسجد النبوي.
وبالتزامن مع تفجير المدينة، استهدف التفجير الآخر أحد مساجد القطيف، دون أن يُوقع إصابات. وقال شهود لوكالة «فرانس برس» إن «التفجير نفذه انتحاري بكل تأكيد»، بعد أن جمعوا أشلاءه الممزقة.
وفجر الأحد–الاثنين، وقع التفجير الأول في أحد مواقف مستشفى الدكتور سليمان فقيه، قرب القنصلية الأميركية في جدة غربي البلاد. وذكرت وزارة الداخلية، في بيانها، أن «رجال الأمن اشتبهوا في أحد الأشخاص وفي تحركاته المريبة»، مضيفةً أنه «عندما بادر رجال الأمن باعتراضه والتحقق منه، فجّر نفسه بحزام ناسف كان يرتديه داخل الموقف».
وأوضحت أن التفجير أدى إلى مقتل الانتحاري وإصابة رجلي أمن بإصابات طفيفة نُقلا على إثرها إلى المستشفى، دون وقوع إصابات أخرى أو توافر معلومات عن هوية الانتحاري.
وهذا هو أول تفجير يحاول منفذوه استهداف أجانب بالسعودية منذ سنوات. ولم تعلن أي جهة حتى الآن مسؤوليتها عن الهجمات الثلاث.
Leave a Reply