نبيل هيثم
بعيدة هي المسافة بين العراق والشام وبين غرب افريقيا. لكن تداعيات «البيعة» النيجيرية لـ«الخليفة» ابي بكر البغدادي لا تقتصر على الرقعة الجغرا فـية التي تسيطر عليها «بوكو حرام»، فالرسالة الاخيرة لزعيم هذه الجماعة الإسلامية الافريقية المتشددة، والتي كانت تعرف يوماً باسم «طالبان نيجيريا»، تعني ان «الدولة الإسلامية» المزعومة قد بدأت تستنسخ تجربة الامبراطوريات الاستعمارية، ومن بينها الامبراطورية البريطانية التي كانت «لا تغيب عنها الشمس» فـي مرحلة تاريخية ليست ببعيدة.
قد يكون من المبكر الحديث عن تداعيات الرسالة الصوتية التي نشرها ابو بكر الشكوي (شيكاو)، يوم السبت السابع من آذار الحالي، والتي تضمنت «البيعة» لـ«الخليفة» ابي بكر البغدادي، وبالتالي انضمام اكبر مجموعة اسلامية متشددة الى تنظيم «الدولة الإسلامية».
لكن توقيت الرسالة الصوتية، وما تضمنته من دعوة الى المسلمين للاصطفاف وراء «خليفة يسوسهم»، يوحي بتطوّرات خطيرة مرتقبة فـي الحرب الكونية التي يخوضها «داعش»، والتي انطلقت من سوريا والعراق، قبل ان تلامس حدود لبنان والاردن ودول الخليج، وتضرب فـي (سيناء) وليبيا (برقة وطرابلس)، لتتمدد لاحقاً الى تونس والجزائر، واخيراً نيجيرياً.
وليس من قبيل الصدفة ان تأتي بيعة المجموعة النيجيرية المتشددة للبغدادي فـي وقت يواجه فـيه «داعش» انتكاسات ميدانية فـي ريف حلب (عين العرب/كوباني)، و فـي ريف الحسكة والرقة، وكذلك فـي تكريت، وقبلها ديالى، وبدرجة معينة على الحدود اللبنانية – السورية و فـي شبه جزيرة سيناء المصرية ودرنة الليبية.
جندي نيجيري خلال دورية لحفظ الأمن |
كذلك، ليس من قبيل الصدفة اختيار نيجيريا بالذات ميداناً لـ«الحرب المقدسة» التي يخوضها «داعش» ضد العالم بأسره، إذ ليس سراً ان تلك الدولة تعد، كغيرها من بعض الدول الافريقية، بوابة تستخدمها اسرائيل للتوغل فـي القارة السمراء، لتلتقي مصالحها مع مصالح الدول الغربية، بدءً بالولايات المتحدة وصولاً الى القوى الاستعمارية السابقة فـي القارة الاوروبية العجوز.
كان واضحاً منذ بدء الصراع بين «بوكو حرام» والحكومة المركزية فـي ابوجا، ان اسرائيل قد دفعت بكل ثقلها فـي هذا البلد الغني بالنفط، وهو ما تكشف قبل نحو عامين، حين تحدث الرئيس النيجيري غودلاك جوناثان صراحة عن وجود تعاون امني وثيق بين حكومته وتل ابيب، التي تسعى الى تقديم نفسها كمناهضة للتطرف الاسلامي فـي العالم، برغم استفادتها من الحركات التكفيرية، بحسب ما تبدى مؤخراً فـي سوريا. وحتى فـي الازمة الاخيرة، كان ملفتاً للانتباه ما قاله كبير المتحدثين فـي «مركز الاعلام الوطني» فـي ابوجا مايك اوميري، فـي شباط الماضي، لصحيفة «جيروزاليم بوست»، من ان «شركاءنا الاسرائيليين استخدموا تجربة مكافحة الارهاب والخبرة الفريدة التى اكتسبوها على مدار سنوات لمساعدتنا».
وبانتظار ان تتبلور صيغة التحالف الجديد بين «دواعش» المنطقة العربية و«دواعش» افريقيا، يبدو أن «البيعة» التي اعلنها ابو بكر شيكاو تدل على تمدد جديد لنفوذ «الدولة الإسلامية»، وذلك بعد بضعة اشهر على اقامة «الخلافة» وتنصيب البغدادي «اميراً للمؤمنين».
ومن خلال هذه «البيعة»، تكون نيجيريا قد انضمت الى 25 «ولاية» سبق ان «بايعت» التنظيم المتشدد فـي تسع دول هي العراق وسوريا وليبيا ومصر واليمن والجزائر والمملكة العربية السعودية وافغانستان وباكستان، مع العلم ان العراق الذي تعود جذور «داعش» اليه، يضم العدد الاكبر من الولايات (عشر ولايات)، وتليه سوريا (ثلاث ولايات)، وليبيا (ولايتان)، ومصر (ولاية واحدة). و فـي هذه البلدان الاربعة ثمة نشاطات ملحوظة لفروع «داعش» المحلية، فـي حين ان وجود الولايات الاخرى الموزعة على البلدان الخمسة الباقية اقتصر على قبول البغدادي «بيعات» المجموعات الجهادية فـيها، من دون قيامها بعمليات نوعية.
ويثير هذا التمدد الكثير من التساؤلات، إنْ لجهة ما يمكن ان ترفد هذه «الولايات» من مقاتلين للتنظيم الأساس، او لجهة طريقة ادارة «الدولة الإسلامية» لفروعها التي صارت ممتدة من المشرق العربي الى غرب افريقيا، مروراً بالشطر الشمالي من القارة السمراء.
وحتى الآن، يصعب الحصول على تقدير دقيق لعدد المقاتلين فـي صفوف «الدولة الإسلامية»، خصوصاً ان الرقعة الجغرا فـية التي يبسط «داعش» نفوذه فـيها تضم ما يقرب من ثمانية ملايين نسمة. وانطلاقاً من هذا الرقم، وقياساً الى تقديرات استخباراتية اخرى، يمكن الحديث حالياً عن وجود 80 الف عنصر «داعشي»، من بينهم 20 الف اجنبي، غالبيتهم من سوريا والعراق (حوالي 50 الف عنصر)، يضاف اليهم اليوم ما يقرب من الفـي مقاتل فـي ليبيا، والعدد ذاته تقريباً فـي نيجيريا. كذلك، فإن من شأن التحالف «الجهادي» الجديد بين «بوكو حرام» و«داعش» ان يؤمن للأخير موارد مالية فـي ظل الضيق الذي بدأ يعاني منه مؤخراً فـي مجال تهريب النفط، وعلى مستوى التحويلات المالية.
و فـي هذا المجال، لا بد من التوقف عند نقطة مهمة جداً، وهي انه حين فرضت واشنطن فـي العام 2012 عقوبات على ابي بكر شيكاو، رد الاخير بأن هذه الخطوة لا طائل منها. وبعد ثلاثة اعوام على فرض العقوبات كان واضحاً ان ما قاله شيكاو كان حقيقياً، اذ صارت «بوكو حرام» تمثل التهديد الأكبر لأمن أكبر منتج للنفط فـي أفريقيا.
ومن بين الجوانب التي يمكن ملاحظتها فـي هذا الإطار، القدرة الاحترافـية لـ«بوكو حرام» فـي الافلات من الحصار المالي، حيث تمتلك ما يكفـي من الخبرات لضمان استمرار تدفق التمويل اليها، وهي خبرات يراهن عليها البغدادي، الطامح الى تنويع مصادر تمويله، او على اقل تقدير تشتيت الجهود الدولية فـي مجال تتبع التحويلات المالية، خصوصاً حين تصبح القارة السمراء ميداناً لمعركة قطع التمويل، وهي معركة لا تقل فـي ضراوتها عن المعارك فـي ميادين القتال.
ويتضمن نهج «بوكو حرام» فـي المجال التمويلي استخدام الأفراد فـي نقل الأموال، فـي عملية يصعب تتبعها، وكذلك الاعتماد على مصادر تمويل محلية، والانخراط فـي علاقات مالية محدودة مع الجماعات المتطرفة. وتستخدم «بوكو حرام» فـي المقام الأول لتمويل شبكتها الفتاكة نظام سعاة ينقلون الأموال داخل نيجيريا، وعبر حدود دول أفريقية مجاورة يسهل اختراقها. ومع ذلك، فإن «البيعة» النيجيرية من شأنها ان تطرح تحديات جديدة امام «داعش» وتتعلق خصوصاً بقدرته على ادارة «ولايات» ما يعرف بـ«الدولة الإسلامية».
ويشمل ذلك، بشكل خاص، البعد الجغرا فـي، إلى جانب كون الأهداف مختلفة بين الجماعتين، فـ«داعش» يسعى للسيطرة على الأراضي وتأسيس الخلافة فـي سوريا والعراق الأمر الذي يعتبر مختلفا تماما عن هدف «بوكو حرام» بنشر الإرهاب فـي شمال نيجيريا وتشاد وما حولهما.
لذلك، فإن كثيرين يتوقعون نشوب صراع بين «بوكو حرام» و«داعش»، خصوصاً حين يدخل العامل العنصري فـي العلاقة بين الفصيلين، فإذا كان تنظيم ابي بكر البغدادي يرفض الاختلاف فـي الرأي، حتى داخل المعسكر «الجهادي» الواحد، وهو ما تبدى فـي صراعاته مع «جبهة النصرة» وغيرها من الجماعات المرتبطة بتنظيم «القاعدة»، فما بالك بقبول افارقة فـي صفوف «الدولة الاسلامية»، التي اظهرت تجربة السنتين الماضيتين، وبحسب تقارير استخباراتية، انه يصر على توجيه المسلمين الافارقة المنضوين تحت رايته فـي سوريا والعراق نحو العمليات الانتحارية او حتى التعامل معهم كـ«عبيد» فـي المجالات الخدماتية واللوجستية.
ومهما تكن التوقعات بالنسبة الى مستقبل العلاقة بين الجماعتين الارهابيتين، بات واضحاً ان «داعش» الذي انطلق قبل عشر سنوات فـي غرب العراق، وتمدد منذ عامين الى سوريا، قد انتقل عملياً من مرحلة كونه «عابراً للحدود» الى مرحلة جديدة بات فـيها «عابراً للقارات»، ما يشي بأن ما نشهده اليوم ليس سوى مقدمة لتعقيدات اضا فـية فـي الحرب العالمية الجديدة.
«بوكو حرام»
تعني كلمة «بوكو حرام» باللغة المحلية «التعاليم الغربية حرام»، لكن الاسم الحقيقي لهذه الجماعة هو «جماعة أهل السنة للدعوة والجهاد»، وهو نفسه الذي اعتمده زعيمها ابو بكر الشكوي (شيكاو) فـي رسالة «البيعة» لأبي بكر البغدادي.
وترتكز الملامح الفكرية لـ«بوكو حرام» حول عدد من الأصول الفكرية أهمها العمل على تأسيس دولة إسلامية فـي نيجيريا بالقوة المسلحة، والدعوة إلى التطبيق الفوري للشريعة الإسلامية، وتحريم العمل فـي الأجهزة الأمنية والحكومية، علاوة على رفض التعليم الغربي. أما تمويل أنشطة الجماعة فـيتم من خلال عدة وسائل أبرزها دفع رسوم العضوية، والتبرعات التى تتلقاها من السياسيين والمسؤولين الحكوميين، والدعم المالي من المجموعات الإرهابية الأخرى مثل تنظيم «القاعدة»، هذا فضلاً عن الجريمة المنظمة وخاصة السطو على المصارف.
وبالرغم من ان هذه الجماعة اتخذت من شمال نيجيريا حاضنة لها لأكثر من عقد من الزمن، فإنها لم تثر الانتباه إلا عندما قامت فـي تموز العام 2009 بتحركات دموية وعنيفة ضد الحكومة النيجيرية، الأمر الذى جعلها منذ ذلك الوقت مثار قلق أمني خطير على المستويات المحلية والاقليمية والدولية.
ومثل قتل الزعيم السابق لـ«بوكو حرام» محمد يوسف فـي العام 2009، من قبل الشرطة النيجيرية، نهاية لما أطلقت عليه الحركة حينئذ أنه «ثورة». وبعد فترة انكفاء الجماعة المتشددة على نفسها أعادت رسم استراتيجيتها فـي اتجاهين، الاول تنظيمي باعتمادها زعيما روحيا جديدا هو محمد أبوبكر الشكوي، والثاني بإعادة رسم تكتيكاتها العسكرية، التي كانت تعتمد على إتقان عمليات الكرّ والفرّ التقليدية، فأضافت لنهجها تكتيكات أخرى جديدة وعنيفة ومرنة تشمل الاغتيال والتفجيرات الانتحارية.
إسرائيل في نيجيريا
بدأ التحرك الاسرائيلي فـي نيجيريا فـي العام 1967، حيث ساهمت تل ابيب، الى جانب الدول الغربية، فـي جر تلك الدولة الأفريقية الغنية بالنفط الى حرب اهلية تمهيداً لتفتيتها.
وبالفعل نجحت تلك الجهود التخريبية فـي إشعال حرب أهلية فـي نيجيريا على أساس طائفـي ديني
(مسيحيون ومسلمون)، وقدمت إسرائيل ودول اخرى كل أشكال الدعم لقوي الانفصال فـي إقليم بيافرا الغني بالبترول.
فـي تلك المرحلة، دخلت مصر مباشرة على خط الصراع الداخلي فـي نيجيريا، فارسلت طائراتها الى تلك الدولة لحماية وحدة البلاد ودعم حكومتها الشرعية وهو ما تحقق فـي العام 1970.
ومن نتائج الحرب الاهلية، والتدخل المصري لحماية الحكومة الشرعية فـي نيجيريا، ان قامت ابوجا لاحقاً بقطع علاقاتها مع اسرائيل (1973)، وهو اجراء استمر قرابة عقدين، الى ان شهد العام 1992 تحوّلاً مهماً تمثل فـي استئناف العلاقات الديبلوماسية.
وابتداءً من هذه المرحلة، وظفت إسرائيل قدراتها العلمية والاقتصادية والسياسية, فـي علاقتها مع نيجيريا فأرسلت خبراء للمساعدة فـي مجالات الزراعة والخدمات الصحية والتعليم، واستضافت عددا من الطلاب النيجيريين للدراسة فـي مختلف المجالات المتقدمة فـي إسرائيل.
فـي المقابل، تحولت نيجيريا الى سوق مهمة للصادرات الإسرائيلية، وخصوصاً العسكرية، لتنضم الدولة الافريقية الى قائمة اكبر مستورد للبضائع الاسرائيلية (300 مليون دولار سنوياً)، كما استفادت من زيارة الحجاج النيجيريين المسيحيين الى الاراضي المقدسة لتعزيز قطاعها السياحي (50 ألف سائح سنوياً).
وعلاوة على ذلك، عملت اسرائيل على زج نيجيريا فـي ما وصف بمواجهة ايرانية-افريقية فـي غرب افريقيا، عبر التحريض على اللبنانيين خصوصاً، واتهامهم بالسعي لتنفـيذ عمليات «ارهابية» هناك.
Leave a Reply