عماد مرمل
مرة أخرى، تفضح الحرب الاسرائيلية الجديدة على غزة، التخاذل العربي المعيب الذي لا يقل وطأة وأثرا من الصواريخ التي لما تزل تتساقط على رؤوس المدنيين في القطاع الصامد.
ليست اسرائيل فقط هي المعتدية على الشعب الفلسطيني في غزة، ذلك ان معظم العرب ساهموا في العدوان، كلُ على طريقته.
اختار بعض العرب ان يكون شريكا من خلال صمته المريب الذي يقارب حد التواطوء وإن تكلم فينطق كفرا سياسيا.
سامح شكرى وزير الخارجية المصري مجتمعاً مع جون كيرى وزير الخارجية الاميركية في القاهرة |
وارتأى البعض الآخر ان يكون شريكا عبر إطباق الحصار على القطاع عن طريق إقفال معبر رفح امام المدنيين ومنع وصول السلاح الى المقاومين.
ولعل الأسوأ، هو ان تتطوع جهات عربية رسمية لتأدية دور الوسيط بين العدو الاسرائيلي والمقاومة الفلسطينية في مفاوضات إطلاق النار، وان تقف على مسافة واحدة من المعتدي والمعتدى عليه، من دون خجل ومن دون ان يرف لها جفن.
لذلك، فان ما حصل في غزة وجه الضربة القاضية الى ما سمي بـ«الربيع العربي» الذي كان يترنح خلال السنوات القليلة الماضية، الى ان سقط كليا مع العدوان الاسرائيلي الاخير على الفلسطينيين، بعدما تبين انه لم يكن سوى «صحراء مقنّعة» جرى تمويهها بشعارات براقة، ما لبثت ان اصطدمت بالواقع.
لا قيمة أصلا لأي ربيع عربي ما لم يُزهر في فلسطين دعما للمقاومة وجمهورها، والتزاما بالثوابت، وتمسكا بالحقوق، ورفضا للسياسات والمشاريع الاسرائيلية،
وبالتالي فان كيفية مقاربة القضية الفلسطينية تبقى هي المعيار الوحيد للتثبت من صحة أي ربيع مفترض، وللتأكد مما إذا كان المبشرون به منتحلي صفة او غير كذلك.
ولقد أتى الاختبار الجديد الذي خضعت له الانظمة العربية ليُبين بوضوح ان تعاطي معظمها مع العدوان المتجدد لم يتغير قياسا الى المراحل السابقة. وإذا كانت الحرب الاسرائيلية على غزة هي الأولى بهذا الحجم بعد إنعطافة «الربيع العربي»، فان طبيعة ردود الأفعال عليها – التي تراوحت بين حدي التواطوء المتعدد الأشكال والاستنكار اللفظي في أحسن الحالات – لا تزال امتدادا لما كان يحصل في الماضي، وكأن شيئا لم يتبدل بين الامس واليوم.
وكان لافتا للانتباه، ان هناك في العالم العربي من وصل به «عمى الألوان» الى درجة تهميش أخبار العدوان والشماتة بحركة حماس ردا على مواقفها من هذا النظام او ذاك، في تجاهل او جهل لحقيقة المواجهة وأبعادها التي تتصل بجوهر القضية الفلسطينية ومستقبل الصراع مع اسرائيل.
والاكيد انه لم يكن جائزا الاستفادة من لحظة العدوان الاسرائيلي لتصفية الحسابات وممارسة الكيدية، وصولا الى تضييع البوصلة والانتقام من «حماس» في أسوأ توقيت، علما ان هذه الحركة لا تختزل بطبيعة الحال كل الشعب الفلسطيني وتضحياته، ولذلك من الظلم ان يؤخذ هذا الشعب بجريرة الموقف من هذا الفصيل او ذاك.
ان اي معركة تخاض ضد العدو الاسرائيلي لا تخص فقط التنظيم الذي يخوضها، بل هي في دلالاتها ونتائجها أوسع من ذلك بكثير، وتُحسب علينا جميعا، وبالتالي فان حصيلة موقعة غزة تتجاوز في تأثيراتها حدود القطاع الجغرافية، لتنعكس على مصير فكرة المقاومة بحد ذاتها وعلى موازين القوى بين الحق والباطل، وبالتالي كان يُفترض ان تعني هذه المواجهة كل العرب، من أنظمة وشعوب، لا ان تكون همّا لأهل غزة حصرا.
لكن، وللاسف غرقت مرة أخرى قضية كبرى بحجم الصراع ضد اسرائيل في الزواريب الضيقة والنكايات العبثية، الامر الذي أتاح للعدو ان يأخذ مداه في العدوان وان يتمادى في ارتكاب المجازر، مطمئنا الى ان بإمكانه استفراد غزة، من دون ان يتوقع مفاجآت عربية، من شأنها ان تخلط الاوراق.
والمفارقة الاشد إيلاما وغرابة، ان فتاوى الجهاد التي تنتج إنتحاريين يفجرون أنفسهم وسط المدنيين في العديد من الدول العربية، توقف مفعولها وفعلها عند أبواب الارض المحتلة، حيث يحتاج الشعب الفلسطيني أكثر من غيره، وقبل غيره، الى من ينصره في مواجهة الاحتلال الاسرائيلي، علما انه لا مجال هنا لاي التباس او اجتهاد في معنى الاستشهاد والجهاد، خلافا لما هي الحال في الساحات الاخرى التي تختلط فيها المفاهيم، حيث يصير الانتحار استشهادا، ويغدو دم الابرياء ممرا الى الجنة!
ولعله ينبغي التساؤل في هذا السياق:
هل هي مصادفة ان سوريا التي تشكل حجر اساس في محور المقاومة والممانعة، باتت أسيرة ارهاب لا يميز بين ضحاياه، وتحولت أرضها الى مسرح لحرب طاحنة مزقت نسيجها الاجتماعي واستنزفت قدراتها العسكرية، ما جعلها تفقد العديد من عناصر قوتها الاستراتيجية في مواجهة اسرائيل؟
وهل هي مصادفة ان «مصر – الأم» التي تمثل الوزن الأثقل في العالم العربي، قد أصبحت رهينة اضطرابات متلاحقة وعنف متجول، الامر الذي دفعها الى الاستغراق في همومها الداخلية وإعادة ترتيب أولوياتها وخياراتها على حساب الدور القومي؟
وهل هي مصادفة ان لبنان الذي هزم اسرائيل مرتين عامي 2000 و2006، يواجه ارهابا موصوفا باسم الدين، يسعى الى زرع الفتنة المذهبية وإشغال المقاومة بصراعات جانبية؟
وهل هي مصادفة ان العراق الذي كان يُنتظر منه ان يبدأ باستعادة عافيته وحضوره بعد انسحاب الاحتلال الاميركي منه، يواجه حاليا خطر التفتت المذهبي والزحف الداعشي؟
وهل هي مصادفة ان ينقسم السودان وتتمزق ليبيا ويستنزف اليمن ويتمدد الارهاب في تونس.. أم ان كل ذلك يصب في نهاية المطاف في خدمة اسرائيل التي لا يناسبها إلا ان يكون العالم العربي متفسخا ومبعثرا، بحيث تظل هي الاقوى وسط كثرة من الضعفاء، تستمد شرعيتها كدولة عنصرية من مشاريع الدويلات الطائفية والمذهبية التي تقوم شيئا فشيئا على أنقاض دول، تخضع الى عملية «ضم وفرز» من جديد، وفق حدود معدّلة، تتناسب مع مخطط التفتيت.
بالتأكيد، لم يكن هناك أفضل لاسرائيل من هذه البيئة العربية المريضة لتشن حربها على غزة، وتسفك دماء الفلسطينيين على مرأى ومسمع العرب، وهي تعلم ان دولهم تتوزع بين تلك الموجودة خارج الخدمة، وبين تلك التي قررت ان تكون في خدمة المشاريع المشبوهة. وحدها المقاومة في لبنان، اختارت ان تبقى منسجمة مع نفسها وثوابتها، وان تعمل على طريقتها لدعم الفصائل الفلسطينية المسلحة في غزة، بالخبرات والقدرات، من دون ضجيج واستعراض، متجاوزة كل التباينات التي سببتها الازمة السورية مع «حماس»، على قاعدة ان فلسطين تجمع ما فرقته سوريا، وان العداء لإسرائيل يبقى القاسم المشترك الاساسي، القادر على امتصاص كل الخلافات الجانبية.
Leave a Reply