مجموعة من عشاق المسرح المبدعين من الهواة والمحترفين، والذين لم يطلهم العجز بسبب ما يحيط بهم من أوضاع إقتصاية مزرية، وتردي الساحة الثقافية في منطقة ديربورن حيث تطغى المؤسسات الدينية بدل الثقافية.. جاؤوا ليقدموا عملهم المسرحي الثاني «عربة السلام» بجهودهم الفردية وبرعاية «منتدى الرافدين للفنون والثقافة».
لا شك أن كل من يبادر الى تقديم عمل مسرحي يجب أن تُقدم له كل وسائل التشجيع والعون والمساعدة، سواء كانت مادية أو معنوية، وخاصة من لدن المشتغلين في المسرح العراقي أو المتابعين له والمهتمين به، وذلك بسبب التصحر المسرحي والفني العربي الذي يلفنا جميعا ً هنا في المهجر الأميركي.
هؤلاء يقودهم الفنان العراقي المعروف بحبه لخشبة المسرح الاستاذ والفنان حيدر الشلال، صاحب المسيرة المسرحية الذاخرة بتاريخ مشّرف على مسارح بغداد والمحافظات، والذي عمل على تحريك المشهد المسرحي من خلال تجربته هذه، رافضاً التوقف والإبتعاد بالرغم من المعاناة الكبيرة، قائلاً «نحن قادرون على نشر الوعي بالجمال، والحق والخير، في هذا الإغتراب السيمفوني الهائج والمحرك لشظايا القلوب الحائرة»، فجاءت «عربة السلام» لتفتح العيون المغمضة.. فـ«السلم هو المطلب الأول، وهو الضرورة الأخلاقية.. هو الذي يعيد التوازن للحياة، ويرسم دعائم المحبة والتآخي والعيش المشترك الحر الكريم لكل البشرية دون تفريق». هي دعوة كما يقول «لإيقاف كل ما يبرر الحروب بدوافع دينية ومذهبية وعرقية وعنصرية وغيرها، فالشرعية للسلم وحده، للتعايش السلمي، والمحبة، والخير، والصلاح في عالم إنساني».
هذا ليس العمل الأول لـ«منتدى الرافدين» حيث سبق وأن استضاف مسرحية «فخرية هاي لايف» وهي من تأليف وإخراج أكرم السبع، ويأتي العمل الثاني المعنون بـ«عربة السلام» الذي قدم الشهر الماضي على خشبة مسرح ثانوية «فوردسون» في ديربورن، بمثابة رسالة تبث روح المناشدة «حيال ما أصاب عالمنا بمجمله. فالإنسان والبيئة في خطر كبير وعلينا جميعاً أن نوحد الصوت، فدعونا نحلم وشاركونا الأمل».
في «عربة السلام» يؤكد الشلال فلسفته حول الإنسان وافلاس جميع نظم الفكر المغلقة التي تؤدي الى الحروب المعلنة وغير المعلنة. ويوجه الشلال أسئلته المكتظة بما تحمله من تفسير كلي للواقع، محاولاً ترجمة فلسفته المعاصرة الى عمل درامي عبر أدوات بصرية تخللتها مؤثرات صورية، تنم عن وهج الاشتعال الذي يسري في عروقه الملتهبة من جراء ما حل بالوطن وما صاحبه من محنٍ، وقطع الاطراف البشرية، والدم المراق على أرض العراق.
ولكونه خارج من بلد الحروب والدم والموت الى الأرض الواسعة ظل الشلال يعارض الحروب والدمار مستمداً فلسفته «البيكيتية» الساخرة من تجار الحروب، فقد أخذ العرض المسرحي شكل لوحات منفصلة كل واحدة لها حبكة معينة، بيد أن قاسمها المشترك «الحرب» التي أنتجت كل تلك المشكلات التي طرحتها كل لوحة. ومن هذه اللوحات لوحة «الإعاقة» التي ظهرت بمدلولها الرمزي منطلقة من الحوار الذي جاء على لسان أحد أبطال المسرحية «نحن وأنتم الوقود»، مخاطبا ً الجمهور مستخدماً آلية خطاب المسرح الملحمي «البرشتي» القائم على كسر الجدار الرابع أو الإيهام عبر إشراك المتفرج في خطاب العرض، ومما يلاحظ في لغة الحوار أنها إعتمدت على حالة السرد على لسان الرواة الذين هم شخصيات العمل مما أفقد في بعض المواضع حالة الصراع الدرامي الذي ينجم بالضرورة عن حالة التصادم ونقطة الصراع ظلت كامنة في فكرة «الحرب» التي تشظت بأشكالها المختلفة.
ومن اللوحات التي ظهرت على هذا النسق السردي «العجوز والمجانين» و«الإغتراب» و«الرسام» و«المتسول». وظهرت الوثيقة الفلمية في مستهل العرض بوصفها إحدى عناصر العرض التي حفزت حالة التداعي بفعل ما حملته من مضامين تمحورت حول «الحرب والسلم». فالحرب ظهرت من خلال صور الدبابات والآليات الحربية، وصور لرموز التحرر والإنعتاق منهم غاندي، ومارتن لوثر، ونيلسون مانديلا.. وزاوج المخرج عبر هذا الإستخدام بين «الوثيقة والدراما»، (الدوك دراما)، وهنا لابد من الإشارة الى أن المخرج والمؤلف الشلال عمد إلى إجتراح نسق مسرحي مهجن تداخلت فيه مختلف المدارس والإتجاهات المسرحية، ومن نقاط التميز في هذا العرض هو المشهد الذي أداه أحد «الأطفال» الذي حمل رسالة السلام بأداء مسرحي عفوي طفولي الأمر الذي حاز على إعجاب الجمهور. كما أخذت الموسيقى والغناء حيزاً كبيراً من فضاء العرض وقد تجلى ذلك بظهور الفنان رعد بركات على خشبة المسرح وهو يشدو للسلام، وفيما يتعلق بالإستخدامات الإخراجية، ما لفت الانتباه عدم إستغلال المخرج لفضاء الخشبة إستغلالاً كاملاً وحاول حصر إستخداماته في وسط ومقدمة المسرح دون إستغلال منطقة عمق المسرح، وكذلك فيما يتعلق بتفعيل منظومة التأويل عبر الأشكال التجريدية الموجودة على خشبة المسرح كان من الممكن تفعيلها جمالياً لتحقيق حالة التأويل وإنتاج معانٍ جديدة إنطلاقاً من أن المسرح هو إعادة اللحظات المتسامية في الحدث والزمان والمكان والتاريخ عبر مجمل عناصر العرض المرئية والسمعية بوصفها ديناميكية متفاعلة. وفيما يتعلق بإضاءة العرض كان من الممكن إستخدام البقع الضوئية لإحداث العزل المشهدي لتعزيز حالة الصراع الدرامي عبر الجو النفسي العام الذي يخلقه عالم الضوء وخصوصا في المشاهد الإنفرادية والثنائية مثل مشاهد المرأة ومشهد الرسام ومشاهد أخرى كانت بحاجة لإضاءة على طريقة الـ«سبوت لايت»، فضلاً عن أن بعض المشاهد كانت بحاجة إلى الضغط والتكثيف -لاسيما ونحن نعيش تجليات عصر العولمة والإختزال- لأن الفكرة واضحة وغير معقدة.
يبقى عمل «عربة السلام» رسالة سلام وإدانة للحروب وإنتصار للإنسان والبيئة، حاول القائمون عليه إيصالها عبر طقس مسرحي، ونحن إذ نسلط الضوء على تلك العروض المسرحية الإغترابية نستغرب من بعض الناشطين في حركة المسرح الإغترابي في ميشيغن «غيرتهم» إلى درجة النرجسية، لكن ما لا نعرفه هو معنى هذا الرفض للنقد كلما حاول أحدهم تسليط الضوء، بدافع التقويم والتطوير الذي نحن بأمس الحاجة اليه وهو ضرورة لاستمرار عملية التطور والتجديد في الحياة.
Leave a Reply