لطالما شكوت نفسي وغضبت منها، لأنها بعيدة عن التفكير بأي مفهوم من المفاهيم. وجعلتني أمارس حياتي، بنفس الطريقة القديمة التي تقوم على البديهة والإرتجال والوقوع في الأخطاء وبسرعة لا يمكن تداركها، وأخشى ما أخشاه أن تكون أداة التفكير التي وضعها الله داخل جمجمتي فيما تحتويه القشرة الدماغية من أنسجة وخلايا وشرايين، وجعلها عضواً حياً فعالاً، قد ماتت.. لا لشيء سوى للقاعدة البديهية التي علمتنا إياها الطبيعة بأن العضو الذي لا يُستخدم يضمر ويتلاشى، تماماً كما حصل بالأمخاخ العربية من قلة الإستخدام أو من سوء الإستعمال.
لكن الذي يعزيني، ويجعلني أسامح نفسي وأغفر لها أخطاءها وعدم إدراكها لمجرى الأمور، هو إني واحدة من ملايين العربان المميزين جداً بقلة التفكير وسوء التدبير، وأخذ الأمور على علاّتها، إما تصيب أو تخيب، كمعظم القرارات المصيرية التي يتخذها الأعراب هذه الأيام بعشوائية الفطرة والإرتجال، بدون معاناة التفكير بعاقبة الأمور وبدون النظر في ما سبق قوله، وعدم مشاورة ومعاونة المختصين.
لا شك أن ما دفعني للكتابة عن هذا الموضوع هو مانراه ونسمعه ونعيشه حولنا من فوضى وعشوائية تسود حياتنا هنا في المهجر أو هناك في الأرض «اللي بتتكلم عربي» والإنهيار الفظيع نحو الأسوأ، ونتساءل: أليس في هذه الأمة رجال سديدو الرأي؟؟ وهل عجزت الأمهات عن إنجاب رجال مفكرين؟؟ وأنا أسأل، وجدت نفسي أمام قصة سمعتها وأنا صغيرة، ولسبب ما لا زلت أتذكرها.
تقول الحكاية إن أحد الملوك قد سمع أن هناك حكيماً في مملكته يبيع الحكمة للناس، هذا الملك طلب من مساعديه أن يحضروا له هذا الحكيم، لعله يقتني منه حكمة ما. جاء الحكيم ولم يرهبه الوقوف في حضرة الملك وأعوانه، بل طلب منه مبلغاً كبيراً جداً قبل أن ينطق بكلمة واحدة. كان الحكيم ذكياً أيضاً، لأنه أدرك أن القيمة ليست للنصيحة بل للزبون الذي يطلبها. لم يكن بوسع الملك -الذي كان يتظاهر بحب الحكمة وتطبيقها- إلاّ أن يدفع له ما طلب. وعندما إطمأن الحكيم إلى أن النقود قد أصبحت تحت ردائه قال للملك حكمته: «فكّر قبل أن تعمل».
هذه الكلمات البالغة الإيجاز أصابت الملك بخيبة الأمل، لكن المبلغ الكبير الذي دفعه جعله مصمماً على الإستفادة من هذه الحكمة بأي شكل من الأشكال، فقرّر أن يكتبها على كل شيء في قصره بدءاً من نقشها على جدران القصر الخارجية إلى أبواب الغرف، بل إنه حفرها على أدوات الطعام وأمر بتطريزها على الستائر والشراشف.. ولكن هل عمل بها؟؟
من المؤكد إنه لم يأخذ بتلك الحكمة، تماماً كما فعل ملوك الأندلس بشعارات «لا غالب إلا الله» التي وضعوها على كل شيء ثم باتوا مغلوبين مقهورين.
أيام كثيرة مرت، وتحوّلت الحكمة إلى مجرد شعار منقوش خال من المعنى تماماً مثل تلك التي نراها على أبواب البيوت والمتاجر: «هذا من فضل ربي وضَرب الإنشورنس!» الى «ستاتوسات الفيسبوك» التي نقرأها ونكتبها ولا نفكر ولا نعمل بها.
في صباح أحد الأيام، حضر حلاّق الملك كعادته ليقوم بتشذيب لحيته، وصبغ شيبته، لاحظ الملك أن الحلاّق كان مرتبكاً على غير عادته، كلما أمسك بواحدة من أدوات الحلاقة، إرتفعت يداه وسقطت منه على الأرض. عندها صاح فيه الملك منبهاً، فانهار الرجل وقال للملك: لقد قررّ نفرٌ من القصر إغتيالك وكنت أنا وسيلتهم لذلك، فهذه الموسى مسمومة إذا وضعتها على وجهك فسوف يسري السم في كل أنحاء جسمك، ولكني كلما تناولت أداة من الآدوات وجدتها مكتوباً عليها «فكّر قبل أن تعملّ وقد شعرت بأن هذا القول موّجهٌ لي بصورة خاصة، فلم أستطع أن أكمل المهمة».
لازلت أذكر هذه الحكاية لأنها تحتوي على الجوهر الأساسي للحكمة التي يسعى إليها كل إنسان عاقل. وربما لأنني وعلى الرغم من شدة معرفتي بمغزاها فشلت في تطبيقها.
Leave a Reply