جمهوران صفقا كُلٌّ لزعمائه.. في بلاد «العم سام»
لا ينقسم ممثلو مسرح «لا يمل» سياسياً إلا في إطار تأدية مواقف مسرحية تعكس واقع الإنقسام اللبناني الحادّ واستقطاب اللبنانيين بين فريقين بارزين متنازعين هما فريق 8 آذار وفريق 14 آذار.
لا ينطبق هذا على الجمهور اللبناني الذي حضر إلى مسرح فورد في مدينة ديربورن مساء السبت الماضي لمشاهدة العرض الذي جالت به فرقة تلفزيون المستقبل على عدد من المدن الأميركية.
فالجمهور الذي دخل إلى قاعة المسرح «موّحداً» لم يتلكأ لحظة في إظهار إنقسامه. عجّل في تظهير هذا الإنقسام المشهد الأول من العرض الذي قدّم «مسابقة في المعلومات العامة» بين مشتركين يمثل أحدهما (عباس شاهين) فريق الثامن من آذار، والآخر (عادل كرم) فريق الرابع عشر من آذار.
وفي اللحظة التي نطق فيها شاهين بإسم 8 آذار وعرّف بنفسه اشتعل الجزء الأعلى من المسرح بالهتافات التي مجدّت السيد حسن نصر الله ملء حناجر الممجدّين بكلمتين كافيتين للتعبير عن وجهة المشاعر والأحاسيس: «أبو هادي .. أبو هادي» واهتزت أركان المسرح لوقع هذا الهتاف الذي شاع على الارجح بين جمهور 8 آذار بموازاة الهتاف الذي اشتهر به جمهور 14 آذار: «أبو بهاء .. أبو بهاء» بعد إغتيال الرئيس رفيق الحريري.
الممثل عباس شاهين الجنوبي «الشيعي» إبن بلدة حاروف المتقن تماماً للهجة الجنوبية، بلا اصطناع، جرى «عزله» في أذهان جزء من الجمهور عن باقي أعضاء الفرقة التي تعمل لحساب «تلفزيون المستقبل» في لبنان وتم التعامل معه «واقعياً» في لا وعي جمهور ديربورن، بصفته «الممثل الحقيقي» لفريق 8 آذار إنطلاقاً من دوره في بعض مشاهد العرض.
بدا الجزء الأمامي من القاعة مشغولاً بجمهور «الفريق الآخر» الذي صفق، دون هتافات، لمواقف مسرحية تعكس وجهة نظر فريق الموالاة، بدا أيضاً أن جمهور 8 آذار حضر أكثر إستعداداً من «غريمه» الآخر واختار مقاعد متجاورة لبث تحياته المتواصلة إلى فريق المعارضة الذي يشعر بقوة الإنتماء إليه. لم يتعب هذا الجمهور من مواصلة التصفيق لمجرّد الإتيان على ذكر «زعمائه» من السيد نصر الله إلى الرئيس بري والجنرال عون مثلما لم يبخل في التشويش على تصفيق «الجمهور الآخر» الأقل حضوراً ودوّيا في المرات التي صفق فيه لمواقف فريقه.
لا عجب في ذلك، فنحن في ديربورن والجمهور الأعرض هو جمهوري «شيعي» وذكر السيد نصر الله يحرك فيه الكثير من مشاعر الفخر والإعتزاز بهذه الشخصية التي لامس حبها لديه حدود العبادة.
الممثل عباس شاهين الذي شكل «صمام أمان» الفرقة أمام جمهور ديربورن، كان نجم المسرح الأول بمواهبه المتعددة وأبرزها موهبة التقليد التي يختص بها من بين أعضاء فريق «لا يمل». تقمص شاهين ببراعة فائقة شخصيات الموالاة والمعارضة من الرئيس بري إلى وليد جنبلاط والجنرال ميشال عون وسمير جعجع الذي كان يقوم بزيارة أميركية ويتجوّل بين كواليس صنع القرار في العاصمة واشنطن خلال العرض الديربورني الساخر.
قدّم شاهين صوراً كاريكاتورية ساخرة جسدت إلى حدّ بعيد تلك الشخصيات اللبنانية المتنافرة بكل تناقضاتها وقفشاتها التي خبرها اللبنانيون منذ إندلاع أزمتهم الوطنية.
الممثلون الذين بذلوا جهوداً مسرحية لا يستهان بقيمتها لأجل إضحاك الجمهور اللبناني «الأميركي» بدوا مأخوذين بالإنقسام اللبناني في عالم الإنتشار إلا أنهم داروا هذا الإنقسام في ديربورن بلباقة بعدما أيقنوا أنهم أمام جمهور «غير متسامح» بمعظمه مع كل ما يرتبط بما يُسمى «فريق السلطة» في لبنان.
قليلة كانت المرات التي أجمع فيها الجمهور على تصفيق موّحد، مما اضطر الممثلة الوحيدة في الفرقة رولا شامية إلى بذل محاولة لتحفيز «الوحدة الوطنية» بطلب التحية والتصفيق لـ«لبنان» فكان لها ما أرادت غير أن الجمهور سرعان ما عاد إلى «سيرته الأولى» مع تتابع الأداء المسرحي وأمسى سهلاً على أعضاء الفرقة تعيين وتوقع ردات الفعل على المواقف المسرحية تبعاً لـ«التوزع الجغرافي» للجمهور داخل قاعة المسرح.
مشهد المسابقة بين المشتركين اللذين يمثلان فريقي الإنقسام اللبناني كان قد بكّر في فرز الجمهور إلى جمهورين، حيث نظم متحمسون للمعارضة عدة «تظاهرات ثابتة» من مقاعدهم وأطلقوا هتافات كما لو أنهم أمام السراي الحكومي الكبير في بيروت.
الممثل عادل كرم المختص بأداء دور «الراعي السوري» في الفرقة حاول «إمتحان» ولاء جمهور الحضور لأميركا بحركة بدت من «خارج النص المسرحي» عندما توجه إلى علم أميركي مرفوع في ركن من المسرح وحمله ملوّحاً به في وجه عباس «ممثل 8 آذار»، لكن «جمهور عباس» التزم الصمت إزاء هذه الحركة، متجاوزاً هذا الإمتحان بنجاح وكان الجوّ يوحي بأن بعض المتحمسين قد يقومون بتسفيه الممثل كرم على هذه «الفعلة». إلا أنهم بدوا «أذكى» من محاولة الإمتحان! بقية مشاهد العرض غلب عليها طابع غير «سياسي» وتوخت إضحاك الجمهور بأي ثمن على النسق المتبع في أداء فرق «الشانسونييه» أو مسارح «آخر الليل» فكان لكل ممثل حصة في تقديم مونولوغ متحرّر من الضوابط الكلامية واقتحمت المفردات ذات الإيحاءات الجنسية نصوص الكلام بلا تحفظ، خصوصاً في الوصلة اليتيمة من عرض «أبو رياض» (عادل كرم) بالإشتراك مع عباس (شاهين) وفي المقابلة «الفنية» التي أجرتها رولا مع نعيم حلاوي.
حضرت هيفا وهبي من خلال نشرة أخبار «المستقبل» السوريالية بخبر رجوعها من «رحلة حج» بعد توبة في العام 2030. لوحظ أن ذكر هيفاء وحّد الجمهور لثوانٍ، ربما لأنها تحظى «بإجماع وطني» وهي أيضاً من المعجبات بكاريزما السيد نصر الله على ما أفادت به مرة في لقاء تلفزيوني. بدا أن «الإجماع اللبناني» لم يعد متوافرا إلا خارج إطار النادي السياسي وكان التصفيق لهيفا نموذجاً.
العرض الذي كان مقرراً أن يبدأ في الثامنة تأخر حتى التاسعة والنصف وسط تململ الحضور وندرة المعلومات عما كان يجري خلف الستارة.
البعض إقترح، بناء عليه، تغيير عنوان العرض من «لا يمل» إلى «إربت تنحل» في إشارة إلى المسرح الساخر الذي يعرضه تلفزيون الجديد المعارض.
ساعتان من العرض أضحكتا جمهور ديربورن من واقع سياسي صار أشبه بمسرح واقعي يؤدي فيه سياسيو لبنان أدوار الكومبارس في لعبة الأمم الإقليمية والدولية التي إبتلي بها لبنان. واقع لم يمنع أحد المتحمسين لهذه اللعبة أن يهتف في وجه الممثلين وهم يحيون الجمهور في ختام العرض: «أبو هادي .. أبو هادي» قبل أن يتلاشى هتافه وسط حشود الخارجين «جمهوراً واحداً» هذه المرة، كل إلى سبيله، بطريقة «حضارية» متذكرين أننا في عقر دار «العم سام»!
Leave a Reply