الشاشات الفضائية العربية في شهر رمضان المبارك كأنهاحلبات لسباق الخيل، أو كأنها ميادين معارك تسمع فيها وتشاهد صليل السيوف وأزيز الرصاص وهدير المدافع، المصريون والسوريون والخليجيون والأردنيون يتدافعون للفوز بقصب السبق.
هذه الشاشات نفسها تشهد جدبا في عرض المسلسلات الجديدة بقية شهور السنة وأيامها، فالمسألة إذن غزارة في الإنتاح وسوء في التوزيع، مثلها في ذلك مثل الثروات والإمكانيات العربية تجدها متركزة ومحتشدة في أيدي مجموعات قليلة من الأولياء والأمراء والزعماء، فيما بقية الناس في فقر مدقع.
هذا الإحتشاد الفني في الشهر الكريم، ليس له مبرر، فإذا كان هدفه توفير نسبة مشاهدة عالية، فذلك لن يتحقق بفضل الكمّ الهائل والكبير لعدد المسلسلات التي تعرض في شهر واحد، فالمشاهد ليس بوسعه متابعة أكثر من أربعة منها إذا كان محظوظا وأسعفته ظروف مشاغله وإجتماعياته أن يتابعها ولن يتابعها إلا جزافا، وبذلك تضيع فرصته في مشاهدة مسلسلات أخرى كان حريصا أن يشاهدها. هو أيضا يفقد لذة التركيز ومعايشة الأحداث والأبطال لحظة بلحظة، فهذه الأعمال الفنية لا شك تحمل لحظات إبداعية تمر كومضات البرق تثير في نفوس المشاهدين التأمل والإستغراق، أو هي كهبات النسيم تندي الفؤاد وتبعث في الروح بهجة وسرورا، لكنه حين يكون القصد من المشاهدة مجرد متابعة سرد الأحداث فذلك يفقد المسلسل روعته ووهجه.
واحد من ردورد الفعل العكسية لهذا النمط من زج عشرات المسلسلات في فترة واحدة، هو عزوف الكثيرين عن متابعة أي منها، والتفسير السيكولوجي لذلك هو إن أنت أغرقت في شيء عزف الناس عنه وعافته نفوسهم، فليس معنى أن العسل لذيذ أن تخزّن قنطارا منه في سرداب منزلك.
فكرة الإنتاج الفني الكثيف لرمضان ليست صائبة تماما من الناحيتين الدينية والإجتماعية، فهذا الشهر الكريم ليس الهدف منه أن يكون موسما للهو والتسلية والنوم والطبخ والإكثار من الحلوى، لابد أن يكون فيه متسع من الوقت للعبادات وقراءة القرآن الكريم والتفكر في آياته، وسماع الأحاديث الدينية، فكيف لنا أن نحقق ذلك وعيوننا مصوبة نحو «عدى النهار» و«هيما» و«في أيد أمينة» و«الفنار». ثم إن المسلسلات تطغى على ما دونها من برامج ثقافية وأخبارية ومنوعات في رمضان، يكاد لا أحد خلال الشهر يصوّب الريموت كونترول على «الجزيرة» أو «العربية» أو «أن بي أن» ليعرف ما يجري في فلسطين ولبنان والعراق والإنتخابات الأميركية وما فعله غوستاف بتكساس ولويزيانا.
إستعراض عام لمجمل المسلسلات في هذا الرمضان على الشاشة الفضية، من شأنه غربلة الغث من السمين، فالبعض منها جاء مكررا في أجزاء ثانية وثالثة : «الدالي» و«باب الحارة» وهذان العملان فقدا حراراتهما مع نهاية الجزء الأول والذي كان مفترضا أن يكون الأخير، في حين أن مسلسلاً حصريا هو «الهاربة» جاء مكررا في موضوعه وبعض شخوصه وأحداثه تجري في أميركا، وهو عبارة عن مسخ لمسلسل آخر عن نفس الموضوع سبق عرضه في رمضان الماضي. أما المسلسلات البدوية فهي كثيرة هذه السنة وأحداثها مملة ومتماثلة والممثلون نفسهم يقومون بنفس الأدوار منذ عشرات السنين، وهي على اية حال لا تمت للواقع بصلة، فليس هناك غارات بين القبائل، ولا هم بهذا الكرم وتلك الفروسية، وهذا التركيز على الشعر والربابة والرومانسية والحب ما هو موجود سوى في مخيلة الكاتب والمخرج.
والمسلسلات التاريخية «أبو جعفر المنصور» و«جمال عبد الناصر» ومسلسلات تروي حياة شخصيات دينية وأحداث من زمن التابعين والخلفاء، فهي الأخرى هروب من مناقشة قضايانا الحقيقية الراهنة لقضايا أكل عليها الدهر وشرب ولا فائدة من الركون إليها. أما الأعمال الخليجية فجاءت كما تعودنا عليها نمطية وغير متجددة، فهي أما فكاهية مسطحة وأما زعيق ودموع وعرض لمشاكل لا أصل لها في هذه المجتمعات المترفة. ويبقى القليل من الأعمال تستحق المشاهدة، يقوم عليها كتاب ملتزمون وأصحاب أفكار ورؤى ويتناولها مخرجون خبراء في مهنتهم، يجعلونها تحمل أنساً وتسلية وأهدافا تربوية وإجتماعية ووطنية، وعلى الناس أن يشاهدوا ويحكموا.
Leave a Reply