كأم لأحد تلاميذه دعاني مدير المدرسة أن أحضر اجتماعاً خاصاً ومهماً، يعقد في نهاية الفصل المدرسي الثاني، حيث يجتمع المعلمون والمعلمات للنظر في أحوال التلاميذ وتبادل وجهات النظر حول الأولاد ومواهبهم وإمكاناتهم وقابلية كل منهم للعلم والإفادة منه.
عندما جاء دوري لمناقشة وضع ابني وأحواله شعرت بالإحباط والندم وأنا أصغي إلى ما يتساقط من درر من الأفواه العليمة الحكيمة. فقد قالت لي معلمة الجغرافيا التي كانت مستعجلة لحضور إجتماع آخر أن ابني في مدة ستة شهور كاملة لم يستطع أن يحفظ شيئاً من علوم الجغرافيا. وتأسفت لي لكونها، ولسنوات عديدة قضتها في سلك التعليم، لم يمر على رأسها تلميذ غير قادر على معرفة الشرق من الغرب!
أما معلم “الماث” (الحساب والجبر) فبعدما عدّل نظارته الطبية على أرنبة أنفه، عطس وبرم شفتيه إشفاقا علي، وأخبرني بصوت رفيع عكس حجمه المرتفع أمامه، “لا يجوز أن نضيع وقتنا بالحديث عنه، فلديه عجز مزمن في حل أبسط عملية حسابية. يبدو أنه لا أمل له في أن يتقدم خطوة واحدة في علوم الرياضيات”!
أما أستاذ العلوم الطبيعية، وبنغمة العلماء الجافة، أكد على قول معلم الرياضات بأن إبني لا يفهم أهون المسائل الحسابية ورأى أن ينقل إلى مدرسة مهنية فورا، كي لا يفسد التلاميذ الأذكياء المجتهدين بعدم قابليته للعلم في هذه المدرسة، التي تسعى لإنجاح طلابها وتعزيز قدراتهم في الحصول على أعلى الدرجات!
هنا تدخل أستاذ اللغة العربية وبعد أن فكر ثم قدّر فأفتى فقال: أن لا سبيل لهذا “الستيودنت” (التلميذ)، أن يفرق بين الباء والتاء والثاء، وعنده صعوبة “فزيعة” (فظيعة) في معرفة المزكر (المذكر) من المؤنس (المؤنث). لم أتمالك نفسي من “الدحك” (الضحك) وأنا أسمعه يشكو من كون ابني لا يكف عن “الدحك” خلال الدرس. يا حبيبي!
تلاحقت أقوال المعلمين من ذكور وإناث، وأكدوا جميعاً، وشددوا على ما أكدوه، أن ابني هذا من الأفضل له بمئة مرة أن يلتحق بمعهد خاص لأمثاله من الطلاب الذين يعانون قصورا في الاستيعاب والتعلم.
المفاجأة في ذلك الاجتماع كانت عندما فتح المدير فمه أخيرا، وقد كان مغلقا للاستماع طوال الوقت، وقال بنغمة حازمة جازمة: وهو فوق كل ذلك قليل الاهتمام والاحترام، هو لا يحييني ويمر بجانبي كأنه لا يراني! فعوى معلم الحساب وقال: نعم إنه يمشي ورأسه في الأرض!
نسيت أن أقول، وحده معلم اللغة الإنكليزية كان راضيا عن ابني وبدا كالساخر من زملائه جميعا عندما قال وكأنه يواسيني: لا تخافي عليه!
كأم، شكوت وبكيت ورجوت، المدير، رجل العلم والتعليم، أن يبقيه في المدرسة ليكمل العام الدراسي، فرفض.
في البيت ضربته بالعصا والمكنسة عقابا له ولي كوني دلّلته فهو آخر العنقود في العائلة، وكانت قبضتي رخوة ولا أقسو عليه مثل أخوته. وكان قرار العائلة نقله من المدرسة العربية الخاصة إلى مدارس ديربورن العامة، وهناك لاحظت الفرق بين فريق المعلمين والإدارة.
نجح ابني، وتخرج من الثانوية ومن الجامعة بتفوق. والأسبوع الماضي نجح في اجتياز امتحان البورد للمحاماة. نعم ابني أحمد آخر العنقود، وبعد سنوات عديدة من الدراسة أصبح محاميا مجازا واجتاز الامتحان الصعب من المرة الأولى، وهو الآن يتابع دراسته بتفوق أيضا في جامعة “جورج تاون” في العاصمة واشنطن لنيل شهادة الماجستير في المحاماة.
أما المدرسة الخاصة، وهيئة التدريس، الذين حكموا على ابني بعدم قابليته للعلم، فقد أقفلت أبوابها سريعاً بعد فشلها الذريع.
الدنيا لم تسعني من الفرح عندما باركت له الأسبوع الماضي نجاحه الباهر وهو يقول لي: “أمي الشهادة ليست غاية ولا نهاية، بل هي وسيلة وبداية”. ومن كل قلبي تمنيت له، وعيوني تدمع فرحا وفخرا به، أن تكون هذه الشهادة وسيلة للنجاح والتفوق وبداية لمستقبل نافع للجالية ولهذا البلد (أميركا) الذي منحه فرصة للتعلم والتفوق.
شكرا لك يا رب.. يا من وفقت ابني أحمد، آخر العنقود، ليصير محاميا!
Leave a Reply