علمني الاستماع للإذاعة، منذ كنت صغيرة، كيف أفتح أذني جيداً، وعيني أيضاً، لأرى العالم الواسع المتجدد الذي ينكشف لي كلما سمعت حوارات اشخاص لا تجمعني بهم سابق معرفة. ورغم ضغوط الحياة العديدة في أميركا ما زلت أستمتع أحياناً عبر إنصاتي للحورات الإذاعية وتعليقات الناس على معظم الشؤون العامة، والخاصة أحياناً. في أكثر الأوقات، أتعاطف مع أفراحهم ومآسيهم وأتفاعل مع أحلامهم وتجاربهم، وتعجبني جرأتهم على قول آرائهم، وأتفهم مدى شكهم وخوفهم ويقينهم. أضحك من قلبي لنكاتهم وتعليقاتهم الساخرة وأحاول قدر الإمكان فهم لهجاتهم المختلفة.
حتى الآن ورغم وجود العديد من الفضائيات سواء العربية أو الأجنبية لا زلت أفضل الاستماع للإذاعة على الجلوس ومشاهدة القنوات التلفزيونية.قبل مدة، على إحدى الإذاعات الأجنبية، سأل المذيع المستمعين: في هذه اللحظة بماذا تفكرون حول أزمة الاقتصاد والبورصة وما تأثير ذلك على نمط الحياة في أميركا؟!..
تساؤلات وأجوبة عديدة وتعليقات مختلفة وردت عبر الأثير. آراء متناقضة بين شامت وساخر من الحياة، كونه يعيش حياته بالطول والعرض ولا يملك شيئاً ليأسف عليه. البعض تساءل مذعوراً لضياع صباه وشبابه ولن يدرك حلمه في الرفاه والراحة. البعض من كبار السن أفنى عمره وهو يلهث وراء المال والعقار ونسي نفسه ويخشى انهيار كل شيء.
في آخر الحلقة التي كان يديرها أكثر من مذيع، قام أحدهم بتلخيص التعليقات وقراءة الملاحظات اللافتة للانتباه. كانت تعليقات كثيرة ومثيرة حسب قول المذيع. وبرأيي كانت وصفاً لا يخص المجتمع الأميركي فقط، لكن يعنينا كجالية عربية وشرق أوسطية (حتى لا يزعل أخوتنا الكلدان الذين ينادون ليل نهار بأنهم ليسوا عرباً) وأحببت في هذه العجالة أن أنقل ما سمعته وفهمته من آراء لعل ذلك يلقي الضوء على التصدع العميق في المجتمعات العصرية الحديثة، الغارقة في تراجيديا حب المال والشهرة والشهوة والابتعاد عن كل ما هو أخلاقي وروحي وديني. كل هذا يؤدي إلى ما تشهده تلك المجتمعات من تصدع اجتماعي واقتصادي.
الحياة العصرية الحديثة جعلت الإنسان يتعلم الهرولة والسرعة، ولم تعلمه فضيلة التمهل والانتظار. لدى العديد من الناس المداخيل المرتفعة في مقابل انحدار شديد في المعنويات والقيم.
لقد تم تفجيرالذرة والاستفادة من تلك الطاقة الهائلة، لكن هناك عجزاً عن تفجير الكبرياء والعظمة والعنصرية في بعض النفوس.
الذهاب إلى القمر والعودة منه، بات أسهل من قطع الشارع للترحيب بجار جديد في الحي المقابل. الشوراع أعرض لكن الرؤية أضيق. يتم تصنيع واستعمال الكمبيوتر والانترنت، الهواتف النقالة الحديثة وتحميلها الكثير من المعلومات، في مقابل انحسار واندثار التواصل الإنساني والبشري. الخبراء والإختصاصيون أكثر من المشاكل. لدى المتعلمين شهادات علمية أكبر ومنطق سليم أقل. الآلاف من المتخرجين من المدارس والجامعات يتعلمون كيفية الحصول على المال الكثير، ولا تعلمهم تلك المدارس الطرق الصحيحة لصرف المال.
خدمات سياحية وعملية كبيرة، لكن الوقت ضيق لاستخدامها. الخدمات الطبية متطورة وراقية، لكن الصحة والعافية منعدمة. استطاع العلم إضافة السنوات إلى عمر الإنسان وعجز عن إضافة الحيوية والخصوبة لتلك السنوات. نستطيع أن نجد في الأسواق الكم الكثير من الأشياء، لكن النوعية في تناقص شديد.
في العائلة هناك مصدران للدخل وأحياناً أكثر لكن الطلاق بازدياد. الكثيرون ممن يملكون الشقق المرفهة الفخمة، لكن يعيشون داخلها حياة محطمة، مخلخلة ملؤها الوحدة وعدم الألفة والتواصل. البيوت أكبر، والعائلات أصغر.
لا شك أن الكثيرين ممن يعيشون في أميركا يشربون الكحول ويدخنون كثيراً. يعملون كثيراً ويرتاحون قليلاً. يقودون بسرعة ويغضبون بشكل أسرع. يسهرون لساعات متأخرة وينهضون باكراً. دوماً متعبون. يعبسون كثيراً ويضحكون قليلاً. يسخرون أكثر مما يسامحون. يشاهدون التلفزيون أكثر مما يقرأون. يستهلكون العديد من الأطعمة. يتكلمون أكثر مما يسمعون، ونادراً ما يصلون!!.. يكرهون كثيراً ويحبون قليلاً.
يتابع المذيع كلامه: إنه حقاً زمن كئيب وبارد هذا الذي نعيش فيه. إنه زمن الوجبات السريعة. البدانة المرتفعة. المخلفات كثيرة. الإجازات قليلة. الأبنية عالية والصبر قصير.
إنه زمن تراجع الأخلاق والقيم ورميها في سلة المهملات. إنه زمن الحب فيه استثناء، والكره والعجرفة مقبولان وعاديان. زمن الدولار والأسواق والمراكز والشركات الكبيرة، حيث انهيارها وانحدارها المرعب والهادر.
أخيراً، أكثر ما أعجبني شخصياً، تعليق أحد المذيعين بالقول: إنه حقاً زمن الكثير من الرؤوساء والقليل من القادة والرواد! إنه زمن تفتح فيه دور العبادة لساعات معدودة، بينما الكازينوهات ومحلات بيع المشروبات الكحولية تفتح على مدار الأربع والعشرين ساعة وطوال الأسبوع..إنه زمن الابتعاد عن الله!!..
ترى ما رأي القراء الأعزاء الآن؟ وبماذا يفكرون في هذه اللحظة؟
هل لديهم وصف آخر أو تعليق لهذا الزمن «الجميل» الذي نعيشه؟
أم أن مشاهدة المسلسلات التركية تأخذ كل وقتهم وتفكيرهم؟!..
Leave a Reply