د. يحيى الجمل
فـي المجتمعات المتحضرة يعرف المتحاورون كيف يتفقون على أمور وكيف يختلفون على أمور أخرى، أما فـي المجتمعات المتخلفة بصفة عامة فإن المتحاورين سرعان ما يتشاجرون عندما يختلفون. قد لا يأخذ الشجار صورة المنازعة بالأيدي والكلمات ولكن يأخذ صورة الاختلاف الحاد فـي الرأي الذي قد يؤدي إلى نوع من القطيعة بين متحاور وآخر، والقطيعة النفسية قد تكون أحياناً أكثر وجعاً من الكلمات.
فـي تقديري أن أهم مقدمات ثقافة الحوار المنتج هي الاعتراف بالآخر «وأن هذا الآخر « أياً كان » له مثل مالي من حقوق، وليس من حقي أن أصادر حقه قبل أن أسمعه». لكن للأسف المر فإن «الآخر» فـي بعض مجتمعاتنا يجري إنكار حقوقه بل ووجوده لمجرد الاختلاف فـي المذهب السياسي أو الديني أو الإثني. وهذه كارثة من الكوارث. لأن الناس خلقوا مختلفـين، لكي يتعارفوا ويتآلفوا لا لكي يتصارعوا ويتقاتلوا.
خذ مثلاً تلك الحالة التي تقسم «بعض» المجتمعات الإسلامية إلى أهل سنة وشيعة، فبعض أهل السنة ينكر على الشيعة كل حقوق الاختلاف فـي الرأي، وكذلك يفعل بعض الشيعة مع أهل السنة. ذلك أن الإسلام عند كل المستنيرين فـي الماضي البعيد والحاضر القريب هو إسلام واحد لا يفرق بين سني وشيعي، ورحم الله الأمام محمد عبده وكثيراً من شيوخ الأزهر الفضلاء.
وقد يكون السبب المباشر الذي دفعني لكتابة هذا المقال هو تجربة أعيشها فـي الأيام الأخيرة التي أقضيها فـي مكان رائع فـي الساحل الشمالي، والتقى فـيه كل مساء مع مجموعة من الأصدقاء والمثقفـين وقد يتيح لي وقت «الإجازة» أن أشاهد بعض برامج التلفزيون، خصوصاً البرامج التي يجري فـيها حوار حول موضوع معين قد يكون مثيراً للجدل والخلاف.
أما حوارات مجموعة الأصدقاء التي تلتقي بعد الساعة التاسعة مساء كل يوم، وتستمر جلستها إلى قرب منتصف الليل، فتدور بنا حول كل شيء فـي مصر، وبالذات منذ فترة جمال عبدالناصر وحتى الآن، ولعل مناسبة افتتاح قناة السويس الجديدة، ذلك المشروع الرائع الجبار، الذي لا أتصور بتفكيري المحدود أن تكون جدواه محل اختلاف بين اثنين، ومع ذلك نسمع البعض يختلفون حول جدواه، بل إن البعض يصل إلى حد أنه كان مشروعاً مكلفاً ولن تكون له جدوى. هناك مجموعة من الناس مهمتها تثبيط الهمم والتشكيك فـي كل شيء مهما كان غير قابل للتشكيك فـيه من كل ذي عقل مستنير.
جمال عبدالناصر بطل عند البعض، وبناء السد العالي وبداية التصنيع وإيمانه بالعروبة، كلها أمور واضحة وتستحق الإعجاب، ولكن البعض يراه رجلاً كان يسعى وراء مجده الشخصي وأن كل ما قام به هراء فـي هراء.. إلى هذا المدى يجري الحوار وأحياناً إلى حد أن البعض ومنهم من يكون طويل البال جداً لا يستطيع الاستمرار فـي الحديث ويترك الجلسة.
وإذا كان هذا هو حال هذه المجموعة المثقفة، فإن حال بعض البرامج التلفزيونية أكثر بؤساً وضلالاً.
رأيت أحد البرامج واسعة المشاهدة، أوشك بعض المتحاورين فـيه أن يمسك بعضهم بتلابيب بعض، رغم أن المسألة كانت تدور حول تقييم ووزن أحد حكام مصر السابقين، وكان من الممكن أن يتم الحوار هادئاً ويقول كل شخص رأيه بهدوء وينتهى البرنامج على خير ويستفـيد المستمعون. ولكن البرنامج انتهى على شر مشاجرة بين المتحاورين.
حقاً تعالوا نتعلم كيف نداري إختلافنا.. تعالوا نتعلم ثقافة الحوار المنتج.
Leave a Reply