عانى نزلاء «معسكر رفحاء» الابطال ألم الاضطهاد ومرارة الاعتقال داخل مربعات الحجز في تلك الصحراء السعودية القاحلة حيث عاشوا لسنوات تحت وطأة العنف والانتهاكات اليومية. هؤلاء الأبطال الذين رسموا تاريخاً مشرّفاً لبلاد الرافدين، وطرزوا بدمائهم حياة ومستقبلاً واعداً للعراقيين. وتتويجا لدورهم التاريخي المشرّف جاء صوت الشعب العراقي هادرا من خلال البرلمان ليعلن ويصوّت في الثالث من أيلول (سبتمبر) سنة 2013 على تعديل قانون مؤسسة السجناء السياسيين وشمول محتجزي معسكر رفحاء بجميع امتيازات السجين السياسي، وذلك إكراماً وتقديراً لدورهم في اسقاط حكم الطاغية في بغداد، ذلك التصويت كان اعترافاً جماهيرياً وحكومياً بنزاهة وطهر أولئك النخبة، الذين طالما حاول النظام البائد تشويه صورتهم أمام الرأي العام الداخلي والخارجي من خلال نعتهم بصفة الغدر والخيانة. لقد دفن التعديل الأخير لقانون السجناء السياسيين تلك الاتهامات في رمال السعودية والى الابد.
والآن ينتظر محتجزو رفحاء بفارغ الصبر التطبيق السريع والفوري لهذا القانون والابتعاد عن روح المماطلة والتسويف، لأنّ الهدف من تشريع القانون هو من أجل تكريم تلك الشريحة المظلومة، ومن أجل تطبيق مفهوم العدالة الانسانية والإسهام بنشر الأمن والطمأنينة في المجتمع، ومن أجل اشباع رغبات واحتياجات الفقراء والمساكين منهم.
في البلدان الديمقراطية -وخصوصا الغربية منها- بعد تشريع القوانين، تسارع السلطة التنفيذية الى ممارسة عملها في عملية التطبيق، وعندها يستفيد المستحق والمحتاج والمعوّز وصاحب الفاقة وجميع المشمولين بتلك القوانين. في الدول المتطورة لا يعاني المشمولون من الأرق والقلق ونقصاً في النوم، ولا يحتاجون الى الانتظار الطويل ومطاردة ملفاتهم بسبب الروتين الاداري، ولا يجبرون على اعطاء الرشوة وممارسة التزوير والبحث عن الوساطة وتقديم فروض الطاعة والولاء الى السيد الموظف.
أما في العراق نجد القانون ينفّذ ببطء ويأخذ وقتا طويلا في التنفيذ. ويتخلل عملية التنفيذ التسويف والمماطلة، واجبار المواطن على التزوير مع ثلم وهدر في كرامة المُراجع، مصحوباً بالإذلال والتوبيخ. كما أن أول من يستفيد من القوانين والتشريعات الجديدة هم الاشخاص المتحزبون وأصحاب النفوذ والسلطة والقوة والجاه والحضور الاجتماعي، بينما يبقى الفرد العادي يعاني ألم المحاولة والتهميش والانتظار. هذه الخروقات الدستورية هي ناتجة عن ضعف في ثقافة الإيمان بمؤسسات الدولة وغياب المهنية واحترام القوانين الصادرة في البلاد. كل هذا أفرز خيبة أمل وإحباطاً وهبوطاً في مؤشرات الوطنية والإخلاص، وضعفاً في الولاء للوطن وتدهوراً في الحالة الامنية للبلاد، وتراجعاً في مستوى البناء وتفاوتاً في المستوى المعيشي للفرد، ووهناً في التماسك الاجتماعي.
في أميركا -على سبيل المثال- إذا تنافس شخصان على وظيفة ما، فالذي يحصل على الوظيفة هو من تتوفر فيه الشروط القانونية والعلمية الاكاديمية والخبرة العملية المطلوبة، غير ذلك لا تشفع له كل أوسمة ونياشين الدنيا، ولا يشفع له انتماؤه الجمهوري أو الديمقراطي، ولا قربه أو بعده من رموز ورجال السلطة. بينما في بلادنا يسرقونك ويعتدون عليك ويصادرون حقوقك ويأخذون مكانك بإسم القانون وبإسم الحزب والرمز، وبإسم «قانون البقاء للأقوى»، كأننا نعيش في غابة لا يبقى فيها سوى القوي الشديد. أهكذا تبنى الأوطان وتقاد الشعوب؟ أهكذا تطبّق العدالة السماوية التي يتمشدق بها ليل نهار النفعيون والفاسدون؟
حكم الامام علي (ع) أربع سنوات ونصف تقريباً. بعد سنتين من خلافته كان يطوف بالزكاة في شوارع الكوفة فلا يجد من يأخذها.. أين نحن من ذلك العملاق الذي أقام عدالة الله في الارض؟ أين المثل والاخلاق والشرف الرفيع الذي ينادي به سارقو الأوطان والشعوب.
يقول الفيلسوف الإيرلندي أدموند بيرك «لكي نحب الوطن يجب أن يكون في الوطن ما يدفعنا لحبه». لقد استطاعت النظم الاستبدادية الغابرة تدمير معظم العلاقات الاصيلة التي تربط الفرد العراقي بأرضه، وأجهزت على معظم الروابط الوطنية والانتمائية، ولا يزال البلد يعاني من ذلك الارث البيئي والاجتماعي البغيض الذي نخر في مقومات القوة والصلابة للمجتمع.
أمة العراق اليوم تبحث عن السياسي الشريف والمسؤول الواعي والنزيه ليفضح المتلاعبين بقوت الناس وأرزاقهم ومصائرهم. جاء دور رواد الفكر والمعلومة ليتحملوا مسؤولياتهم للدفاع عن القيم والمباديء وذلك عن طريق رفع المستوى الفكري والعلمي للجماهير وفضح المندسيين والمأجورين، انها مسؤولية تاريخية وشرعية تقع على أعناقهم ليصلوا بالمجتمع الى شواطىء الامن والامان والتطور.
وكما يقول الفيلسوف الفرنسي فولتير «أينما حلّ الظلم فالكتّاب والمثقفون هم المسؤولون عنه». فليأخذ المثقف دوره التاريخي في التوجيه والإرشاد والقيادة والإسهام الفكري، ليعلّم الناس بأنّ تطبيق واحترام القانون واقامة العدل هو مطلب سماوي وحضاري، الهدف منه هو المحافظة على الحياة وديمومتها وليس الثأر والمنفعة أو المصلحة الشخصية والحزبية. اليوم يتطلع أبناء العراق جميعا ومنهم الغيارى من محتجزي معسكر رفحاء يتطلعون الى أخذ حقوقهم التي كفلها لهم القانون، تلك الحقوق التي هي أقل ما يمكن تقديمه الى تلك الشريحة التي آمنت بالله ربا وبالوطن حِصنا والتي ناضلت وقدمت كل ما تملك من أجل أن يحيا العراق ديمقراطياً أبياً موحداً كريماً..
Leave a Reply