وليد مرمر – لندن
لم يكن مفاجئاً أن تقارن بعض الصحف، وخصوصاً «دايلي ميل» البريطانية، قصة «الهروب من جلبوع» التي سطرها ستة أبطال فلسطينيين الأسبوع الماضي، بالفيلم الكلاسيكي «الخلاص من شاوشانك» الذي قضى فيه «آندي» –المحكوم ظلماً بقتل زوجته وخليلها– 19 سنة خلف القضبان قبل أن ينجح في حفر نفق من زنزانته إلى الفناء الخارجي والهروب عبر طريق أنبوب الصرف الصحي.
وشكل الفيلم المستوحى من الخيال نقطة فاصلة في تاريخ هوليوود حيث تم تصنيفه كواحد من أفضل الأفلام في تاريخ السينما. وربما ذلك يعود بشكل أساسي إلى العبر المستوحاة من الفيلم والتي تتمحور حول أهمية عدم الانكسار أمام الظلم مهما اشتدت الضغوط، والمثابرة والعمل الدؤوب، وقبل ذلك كله، التعلّق بالأمل.
لكن يوم الإثنين الماضي، الواقع في السادس من سبتمبر نجح ستة أسرى فلسطينين بكتابة أسطورة جديدة تفوق خيال هوليوود عندما استطاعوا حفر نفق تحت زنزانتهم والفرار من سجن جلبوع الذي يُسمى غالباً «غوانتانامو إسرائيل» بسبب شدة تحصينه وإجراءاته الأمنية الصارمة.
الأبطال الستة هم: محمود عبد الله العارضة (معتقل منذ عام 1996)، محمد قاسم العارضة (معتقل منذ عام 2002)، يعقوب محمود قادري (معتقل منذ عام 2003)، أيهم نايف كممجي (معتقل منذ عام 2006)، مناضل انفيعات، وجميعهم ينتمون إلى حركة «الجهاد الإسلامي»، بالإضافة إلى زكريا الزبيدي، القائد البارز في «كتائب شهداء الأقصى» إبّان الانتفاضة الثانية، والذي حصل على «إعفاء» من الإسرائيليين بعد انتهاء الانتفاضة، وأصبح عضواً في «المجلس الثوري لحركة فتح»، قبل أن يُعتقل مجدّداً في عام 2019.
هؤلاء الذين سطروا أسطورة «الخلاص من جلبوع» حولوا الأمن الإسرائيلي إلى «جربوع» يحاول التعلل بشتى الأعذار ليغطي إخفاقاته وهزائمه أمام عزيمة الأسرى وصبرهم وإصرارهم.
لقد أمضى السجناء الذين فروا من «جلبوع» فترات طويلة في مبنى العزل الذي يضم –حسب وصف موقع «ميدل إيست مونيتور»– عشرات الزنازين المتقابلة التي يفصلها ممر عرضه متران، ويحيطها سور ارتفاعه ثلاثة أمتار تعلوه قضبان حديدية مما يجعل تسلقه مستحيلاً. وتستوعب كل زنزانة– ودائما حسب الموقع المذكور– ما يصل إلى 25 سجيناً مما يعطي لكل سجين مساحة شخصية تبلغ حوالي 1.5 متر مربع. ويمكن للمحتجزين الخروج إلى ساحة السجن معاً لمدة ساعتين أو ثلاث ساعات يومياً في أحسن الأحوال.
في جلبوع كما في معظم المعتقلات الإسرائيلية، يعاني السجناء من ظروف صعبة للغاية. وفي حالات العصيان أو التمرد يعمد الجنود الإسرائيليون أحياناً إلى إطلاق الذخيرة الحية والرصاص المطاطي. كما تعمد سلطات الاحتلال إلى إذلال السجناء بشكل منهجي حيث تشمل العقوبات التعسفية العنف الجسدي والتعليق على أعمدة الهاتف وقت الظهيرة عندما تكون الشمس في ذروتها أو في الطقس البارد والحبس الانفرادي وتعرية السجناء وتفتيشهم ومصادرة الأوراق والدفاتر والأقلام فضلاً عن حجب قراءة الصحف ومنع الزيارات العائلية وصولاً إلى قطع المياه وتوفير أطعمة متدنية المستوى. وإلى ذلك كله يعتبر الاكتظاظ مشكلة خطيرة والعديد من السجناء ليس لديهم مراحيض ولا مياه في زنزاناتهم.
في هذه الأجواء المرعبة والمذلة تمكن السجناء الستة من الفرار من سجن جلبوع المحصن رغم الظروف القاهرة ورغم الإجراءات الأمنية المشددة. ولكن ربما لم يكن على السجناء الحفر لسنوات عديدة مثل «آندي» في سجن «شاوشانك». فالظاهر أن السجناء قد حفروا فتحة في الأرض بملعقة صدئة مكنتهم من الوصول إلى شبكة الصرف الصحي والتسلل خارج أسوار السجن.
والأمر الأكثر غرابة هو ما قيل بأن خرائط تصميم السجن كانت متاحة على الإنترنت بعد نشرها من قبل الشركة المعمارية التي صممت المنشأة ذات الإجراءات الأمنية المشددة، التي تشمل أبراج مراقبة تعمل على مدار الساعة، وكلاب حراسة ومجسّات وأجهزة استشعار ومنظومات مراقبة حديثة.
وعلقت «الغارديان» على عملية الفرار من السجن الإسرائيلي، بأنها كانت نتيجة لسلسلة «أخطاء هزلية من ضمنها نشر خرائط السجن على الإنترنت، ووجود حارس نائم في برج المراقبة!».
أضف إلى تلك الأخطاء القاتلة التقارير التي تحدثت عن أن مستوطناً يعمل كسائق سيارة أجرة اتصل بالشرطة الإسرائيلية قبيل الساعة الثانية فجر الاثنين، وأبلغهم أنه رأى أشخاصاً وصفهم بأنهم «مثيرون للشبهات» ويحملون أدوات في أيديهم. وتفيد التقارير بأن الشرطة أعلمت الحراس في «سجن جلبوع» عن الحادثة ولكن حراس السجن قللوا من أهمية البلاغ وأخبروا الشرطة بأن الأشخاص الذين تمت رؤيتهم قد يكونون من حراس السجن خلال تغيير الدوام! ولم تعلن مصلحة السجون الإسرائيلية عن فقدان السجناء (ثلاثة أسرى فقط) إلا في تمام الساعة الثالثة والنصف فجراً (أي بعد ساعة وأربعين دقيقة من الهروب) وبعد نصف ساعة أعلنت عن فقدان ثلاثة أسرى آخرين!
وكانت تقارير قد ذكرت أن زكريا الزبيدي طلب قبل يوم من الهروب نقله إلى الزنزانة التي يوجد بها السجناء الخمسة الآخرون. ولقد تم قبول طلبه تلقائياً. وعادة ما تفصل مصلحة السجون الإسرائيلية بين السجناء على أساس انتمائهم إلى الفصائل الفلسطينية، لكن السلطات الإسرائيلية لم يكن لديها أية معلومات استخبارية عن التخطيط للفرار.
والزنزانة التي تم نقل الزبيدي إليها، كانت مسرحاً لأعمال تنقيب سرية استمرت لأسابيع أو شهور أو لسنة كاملة حسب موقع «والا» العبري، حيث قام الأسرى بالحفر تحت المغسلة وصولاً إلى نفق الصرف الصحي. وهم لم يضطروا إلى الحفر كثيراً تحت الأرض، حيث أن السجن مبني على ركائز متينة مكنتهم من الزحف تحت الأرض حيث واصلوا الحفر حتى وصلوا إلى خلف أسوار السجن.
وبعد الخروج من النفق غيرت المجموعة ملابسها بسرعة قبل أن تسير لمسافة ثلاثة كيلومترات بعيداً عن السجن حيث كانت تنتظرهم أكثر من سيارة أقلتهم لوجهات مختلفة. والعجيب أن الأسرى أخذوا معهم حقائبهم وأمتعتهم وهذا دليل على مدى طمأنينتهم وبرودة أعصابهم وإيمانهم بتفوقهم الذهني على سلطات الاحتلال، من خلال خطة محبكة قاموا بتنفيذها في توقيت مدروس بعناية، وهو ليلة رأس السنة اليهودية حيث ينخفض عدد الحراس العاملين في السجن إلى الحد الأدنى.
وحتى الآن لما تستفق إسرائيل من هول الصدمة التي تُعتبر صفعة للمنظومة الأمنية، باعتبارها الهروب الأخطر في تاريخ دولة الاحتلال التي طالما تبجحت بجبروتها الأمني. ويبدو أن وجود حكومة ائتلافية هو السبب وراء عدم تقاذف التهم بالتقصير بين الأحزاب المختلفة.
في المقابل، تداعت جميع الأجهزة المعنية في إسرائيل لمطاردة الأسرى وتم الإعلان عن وجوب القبض عليهم أحياء أم أموات كما وتم زرع عشرات نقاط التفتيش في جميع المناطق دون جدوى. وتتزايد التكهنات بأن الأسرى ربما عبروا إلى الأردن.
وفيما كان لافتاً تهميش بعض وسائل الإعلام الأميركية والعربية لنبأ الهروب العظيم، انتقدت الصحافة العبرية الأداء الأمني للأجهزة الإسرائيلية، وتحدثت صحيفة «معاريف» عن وصول التحقيق في قضية فرار أسرى جلبوع إلى طريق مسدود فيما اعتبر المحلل العسكري والأمني الإسرائيلي، يوسي ميلمانر في مقال في صحيفة «هآرتس» أن «هروب الأسرى الستة يأسر الخيال ويثير الإعجاب ويشير إلى الإبداع والشجاعة والاستعداد للتضحية وقبل كل شيء، إلى الرغبة القوية في الحرية».
Leave a Reply