كمال العبدلي
ابتداءً يتوجّب عليَّ التنويه إلى أنّ إلقاءَ الضوء على الكتاب ضمن حدود مقالة مُبتسَرة، لا يفي بالإحاطة الوافية لكلّ جوانبِهِ التي تتناول العولمة وتأثيراتها الاقتصادية والاجتماعية ودور المجتمع المدني في العالم ولبنان من خلال تجربة «مؤسسة عامل» التي أسسها المؤلّف د. كامل مهنا عام 1978 وانطلق منها لرسم خارطة طريق للإصلاح والانتقال ببلاد الأرز من صيغة دولة الطوائف إلى دولة المواطنة… لذلك حاولنا التكثيف حول أهمّ مضامينه الثرّة والغزيرة بالمعلومات التي يفتقدها القارئ العربي خصوصاً والعالمي عموماً.
يؤكّد د. مهنا على أنّ تعريف العولمة أمرٌ صعب، ذلك لأنّها تنطوي على وجهات نظر مُتعدِّدة، فهي بحسب الباحث نبيل مرزوق: «القوى التي لا يمكن السيطرة عليها للأسواق الدولية والشركات المتعدّدة الجنسيّة التي ليس لها ولاء لأيّة دولة قوميّة»، أمّا لدى الباحث مصطفى حمدي، فهي «حرية تبادل السلع والخدمات والعَمالة ورأس المال والمعلومات عبر الحدود الوطنية والإقليمية»، في حين أنّها لدى الباحث برهان غليون: «ديناميّة جديدة تبرز داخل دائرة العلاقات الدولية من خلال تحقيق درجة عالية من الكثافة والسرعة في عملية انتشار المعلومات والمكتسبات التقنية والعملية للحضارة يتزايد فيها دور العامل الخارجي في تحديد مصير الأطراف الوطنية المكوِّنة لهذه الدائرة المُندمجة، وبالتالي لهوامشِها أيضاً»، ثمّ يختصرها المؤلِّف بتعريفِها على أنّها: «الظاهرة التي يُقصد بها تلك العملية التاريخية التي توحّد العالم في سوق واحدة تتهاوى أمامها أسوارُ الدوَل/الأمم، بفضل تحالف الثورات التكنولوجية مع الشركات الاقتصادية العملاقة».
يستطرد المؤلِّف مستنتجاً: «أنّ العولمة الحالية تنطوي على آليّتَين مُتعاكستَين، آليّة دمج الاقتصادات الوطنية في اقتصادٍ يُسمّى «عالميّاً» وهو اقتصادٌ لفئة عالمية، تتحكّم بالدول والشعوب وآليّة تفكيك وتفتيت مُعاكسة تتجسّد في حروب ونزاعات في مُعظَم الأمكنة. إنّ هذه العولمة تُعيد طرحَ المسألة الاجتماعية حتّى في البلدان المتقدّمة، حيث البطالة تزداد والتأمينات الاجتماعية تتقلّص يوماً بعد يوم، وحيث يُلقى بشعوب برمّتِها إلى الهلاك، وكلّ ذلك على أسس إنسانيّة ديمقراطيّة» (ص 23) مُبرهناً ذلك بالدليل الدامغ، في هامشٍ يوضّح أنّ ثروةَ ثلاثة أثرياء في العالم تتجاوز مجموع الناتج القومي لـ47 دولة في العالم الثالث كما ورد بتقارير الأمم المتّحدة ممّا يستوجب الحديث عن عولمة الاقتصاد وعولمة الفقر رغم واقعيّة الأمر بالتعاطي إزاءَها عمليّاً.
وحين تطرّق المؤلِّف إلى التنمية في ظلّ العولمة أثار انتباهي ذكره لمقولة بليغة للمفكّر التنويري عبدالرحمن الكواكبي الذي قال: «يعيش الفرد في ظلّ العدالة والحرية نشيطاً ومنكبّاً على العمل بياضَ نهارِه وعلى الفكر سوادَ ليلِه، أمّا أسير الاستبداد فيعيش خاملاً ضائعَ القصد حائراً لايدري كيف يُميت ساعاتِهِ وأوقاته ويدرج أيّامه وأعوامه، كأنّه حريصٌ على بلوغ أجلِهِ ليستتر تحت التراب».
ثمّ ينتقل المؤلّف ضمن الخوض في نطاق العولمة إذ يورد في الصفحة 37، مايلي: «من وجهة نظر الاقتصاد العالمي، نحن نعيش في عالمٍ واحد، إلّا أنّه من ناحية الظروف الإنسانيّة هناك خطّ فاصل أكثر اتّساعاً وعمقاً من الفاصل التقليدي بين الشمال والجنوب، يفصل بين الأغنياء وأولئك الذين يعانون الفقرَ المُدقِع ولا يستطيعون إشباع حاجاتهم الأساسيّة اللازمة للحياة. نحن نعيش في عالَمين يتباعدان بصورة مُتزايدة، وما يوصَف بـ«القرية الكونيّة» تضمّ أحياءَ فقيرةً مُتزايدةَ الاتّساع، فيما الكثير من أولئك الذين يقطنون الأحياءَ التي تنعم بالوفرة لا يبالون بالفقراء، أو ربّما يخافونهم»، وعن هذا الخوف الوحشيّ اللامشروع، يبيّن المؤلّف عمقَ الهوّة بين التصرّف الإنساني المطلوب وبين السلوك المتوحّش المرفوض بقوله: «لقد رفضت شركات تصنيع الأدوية العالميّة لسنوات عديدة تصنيع دواء في العالم الثالث وتحديداً في الهند وجنوب إفريقيا ضدّ مرض نقص المناعة (الأيدز) لمعالجة ملايين الحالات المرضيّة» هناك.
وفي مجال العطالة ينقل لنا المؤلّف مقولة عن مدير شركة «سكوت ماكنلي» عن العاطلين: «إمّا أن تأكل وإمّا أن تؤكَل»، وذلك –لعمري– تأكيد على الفجوة الفكرية الحاصلة بين ذوي القرار وبين المحكومين بحكم الفقر.
وضمن عرضٍ سياقيّ متدفّق عن الثروات النفطية في الوطن العربي يمدّنا المؤلّف بحقائق مذهلة قد لا تخفى على المُتابع لكنّ له فضيلة التثبيت، ومن أهمّها: وجود كميات كبيرة من النفط فيه، الأمر الذي يجعله المصدرَ الأوّلَ لتوفير هذه الطاقة للدول الصناعيّة لسنوات طويلة، وهو ما يمنحها أهمّية اقتصادية استراتيجية لها أولويّة في العقود المُقبلة، وما تفرّع عنها من تراكم ثروات نقدية طائلة محلّياً، خضعت لتدويرها في الاقتصاد العالمي مؤمّنةً التمويلَ اللازم لاقتصاد الدول الغربية وامتصاص بعض آثار الأزمة الرأسمالية، وسوف تستمر في العقود القادمة، وبالتالي سوف تبقى المنطقة تحتلّ صدارةً في السياسات الكبرى للدول العظمى كما في صراع المصالح بينها، بما في ذلك، الانتشار العسكري الأميركي في الخليج العربي بغية السيطرة على منابع النفط وطرقها وأسعارها وأسواقها.
أمّا السمة الثانية التي تميّز العالم العربي لجهة موقعه في منظومة العلاقات الدولية، فهي تتمثل في الأهمية الجيوسياسية الاستراتيجية للعالم العربي في إطار الحرب الباردة بحكم موقعه المميّز عند ملتقى القارات الثلاث، أوروبا، آسيا وإفريقيا. لقد جعل هذا الأمر، المنطقةَ العربيةَ ولاسيّما منطقة المشرق العربي المُسمّاة بـ«الشرق الأوسط» مسرحاً لصراعٍ تاريخي طويل مع حركة الاستيطان الصهيونية ثمّ مع الكيان الصهيوني، طوالَ عقود، تخلّلتها خمسُ حروبٍ على الأقل.
مؤسّسة «عامل» والقطاع المدني
إزاءَ الهجمة الشرسة للعولمة المُستبِدّة الساعية إلى تقييد المُعارَضة لنهجِها اللاإنسانيّ، انبرى الدكتور مهنا إلى انتهاج البرنامج المدنيّ للتصدّي لها عبر انخراطه وانهماكه الوطنيّ والإنسانيّ من خلال سعيه المُتفاني في تأسيس وولادة «مؤسسة عامل الدولية» المدنيّة وإظهارها إلى الوجود العالمي مُتخطّيةً إطارَها المحليَّ اللبنانيّ –وقد توفّقَ أيّما توفيقٍ كما تفوّقَ أيّما تفوّق– إذ يعرّفها كتجربة مدنيّة مميّزة ارتقت إلى مستوى النضال في الاصطفاف مع فصيل المؤهَّلين لِنيل جائزة «نوبل» للسلام.
هي جمعية مدنية لاطائفية، تأسّست في أعقاب الغزو الاسرائيلي لجنوب لبنان عام 1978، لديها 25 مركزاً موزعة في المناطق الشعبية ويعمل فيها 800 شخص.
و«تواصل (عامل) مع فريقٍ مُتفانٍ في مرحلة تغلي بها منطقتُنا بالصراعات الطائفيّة والمذهبية والمناطقية، العمل على تعزيز إنسانية الإنسان بمعزل عن الخيارات السياسية والدينية والجغرافية» وتضع المؤسسة على رأس أولوياتها الكفاح من أجل توزيعٍ عادل للثروات على الصعيدَين الوطني والعالمي بالإضافة إلى النضال ضدّ ازدواجية المعايير خصوصاً بين الشرق والغرب فضلاً عن الالتزام بقضايا الشعوب العادلة وفي المقدّمة قضية فلسطين.
تحديات
إذا كانت لكلّ ولادةٍ فرحة فليس لنا إلّا التسليم بما قد يعوقها –صدفةً أو عمداً– من ممارسات ضدّية أو مُعاكسة وفقاً لمصالح ذاتية، شأنها شأن الكثير من المُبادرات الخيّرة فإن مؤسّسة عامل المدنية قد اصطدمت مع معوّقات عديدة بحسب المؤلِّف، ومن أبرزها:
1– عدم تبلور دور المجتمع المدني المستقل عن الدولة.
2– ضعف الفكر المؤسّساتي والاحتراف المهني.
3– ضعف القواعد المؤسسية والشرعية الشعبية.
4– خيار المؤسسات بالتوسع الكمّي وغياب روح الفريق.
5– النزعة الذاتية داخل كل جمعية في التعاطي مع الآخرين.
6– صعوبة الانتقال من الخدمات إلى التنمية.
تتمثل هذه الصعوبات بحسب المؤلٍّف بما يلي:
أ– تخلّف عمل المنظمات وهياكلها.
ب– قصور البناء الإداري والمؤسسي.
ج– ضعف الممارسات الديمقراطية الداخلية بسبب تعظيم الذات وغياب روح الفريق.
لينتهي المؤلِّف إلى صعوبات التمويل الذاتي.
أمّا في مجال التحدّيات بما يتطلّبه القطاع المدني فيورد المؤلِّف استراتيجية العمل المستقبلي مؤكّداً على تعزيز علاقة الشراكة بين الحكومة وبين الهيئات الأهلية، ملحقاً كتابه بمشروع مقترح لقانون الجمعيات التي يراها منصة أساسية للانطلاق في مسيرة الإصلاح في لبنان.
خاتمة
لابدّ لي من الإشارة والتلويح براية المؤلّف عالياً وهو الذي يعتمد أسلوب التفكير الإيجابي والعقلاني المتفائل، كما تشير سيرته الذاتية إلى مبانيه العالية على المستوى الأكاديمي وتحصيله العلمي كاختصاصي بطب الأطفال، وليت المتّسع من المجال لسرد سيرته الغنية، تحصيلاً علمياً ونشاطاً أكاديمياً وأوسمة وتكريمات محلية وعالمية فأختتم بشهادة البابا فرنسيس بحقه:
شهادة قداسة البابا فرنسيس أثناء زيارة الدكتور كامل مهنا للفاتيكان في 15 أيار 2017:
«يشجعك الأب الأقدس على السير في طريقك إلى الآخرين، والمشاركة والتضامن والسلام. إنها تتطلب الدعوة إلى بناء جسور بين الثقافات، بين الشعوب والأمم».
Leave a Reply