مدينة عريقة فقدت بريقها.. وضواحي مزدهرة تسكنها مئات العائلات العربية الأميركية
فلنت – خاص «صدى الوطن»
تعتبر ولاية ميشيغن مركز التجمع الرئيسي للعرب الأميركيين في الولايات المتحدة، وكما هو معروف أن مدينة ديربورن وجوارها تعتبر بمثابة عاصمة هذه الجالية ومركز نشاطاتها إلا أن العرب الأميركيين في ميشيغن ينتشرون في معظم أنحاء هذه الولاية ويتركزون في مناطق عدة. في هذا التقرير تلقي «صدى الوطن» الضوء على أبناء الجاليات العربية والمسلمة الذين يقطنون منطقة فلنت وعلى تاريخ هذه المدينة العريقة التي تحولت الى مدينة أشباح مع هجرة المصانع والوظائف منها وارتفاع معدلات الفقر والجريمة. إلا أن ذلك لم يمنع الضواحي المحيطة، مثل فلنت تاون شيب، فلشينغ، غراند بلانك، من أن تجذب العرب الأميركيين نحو الازدهار والتمتع بمستوى معيشي راقي.
مدينة فقدت بريقها
قبل الحديث عن الجالية في منطقة فلنت لا بد من نبذة عن هذه المدينة التي تقع على بعد حوالي 70 ميلا إلى الشمال الغربي من ديترويت، عدد سكانها 114ألفا وهي من أقدم المدن المأهولة في ميشيغن، تقع في مقاطعة جينيسي على ضفاف نهر فلنت، ويرجع تاريخ إعلانها مدينة إلى العام 1855 حينها كان عدد سكان ميشيغن لا يزيد عن 750 ألف نسمة. في نهاية القرن التاسع عشر كانت فلنت مركزا لتجارة الخشب ما أهلّها لتمويل مراكز لصناعة العربات المحلية التي تجرها الخيول لترث فيما بعد صناعة السيارات على مدى العقود الوسطى من القرن العشرين، ليصل عدد سكانها عام 1960 إلى 200 ألفا، محققة في تلك المرحلة ذروة إزدهارها الإقتصادي والثقافي والإجتماعي لكنها ومنذ تلك الفترة بدأت المدينة بالتراجع نتيجة هجرة الأميركيين البيض منها ونتيجة للنقل الإستثماري لشركات صناعة السيارات الأميركية إلى بلدان في أنحاء العالم، وصولا إلى عام 1973 حين قفزت أسعار النفط بسبب حظر نفطي فرضته السعودية ودول «أوبك» على أميركا والغرب نتيجة وقوفها في الحرب إلى جانب إسرائيل ضد مصر وسوريا. في عام 1990 أصبح أغلبية سكان فلنت أميركيون أفارقة. يشار إلى أن عدد العاملين من سكان فلنت في مصانع السيارات عام 1970 بلغ 80 ألفا، لم يبق منهم الآن سوى 8 آلاف.
بذلك فقدت فلنت بريقها الإقتصادي وهي تحاول إستعادته الآن من خلال تطوير مؤسساتها التعليمية العالية فهناك العديد من الكليات والجامعات: «جامعة ميشيغن-فلنت» و«جامعة كاترينغ» التكنولوجية، وجامعة «بيكر» وكلية «موت» المجتمعية.
ويوجد في المدينة مطاران: «فلنت بايشوب» الدولي والآخر «أم بي أس» القريب من مدينة ساغينو القريبة، وتتصل فلنت بما حولها من المدن والولايات بطرق رئيسية سريعة أهمها «75» الذي يصلها بديترويت و«23» بآن آربر إضافة إلى «69»، «475»، «21»، «54».
جالية متعددة وموحدة
يوجد في فلنت وضواحيها (فلنت تاون شيب، فلشينغ، غراند بلانك) أكثر من ستمائة عائلة عربية ومسلمة ينتمون لبلدان متنوعة، أبرزهم السوريون واللبنانيون والفلسطينيون والأردنيون والمغاربة، إضافة إلى الهنود والباكستانيين. كما تضم الجالية العربية خليطا واسعا من الطوائف والمذاهب المختلفة فهناك الدروز والمسيحيون الموارنة والكلدان والمسلمون الشيعة والسنة، جميعهم بحسب رئيس اللجنة التنفيذية بالمركز الإسلامي في فلنت عبد الحكيم خرفان «تجمعهم صلات وثيقة وعلاقات صداقة وتعاون، وهم على عكس جاليات عربية ومسلمة كثيرة في أميركا، متماسكون وكلمتهم واحدة ومشاريعهم الخيرية والثقافية والإجتماعية تلقى الدعم والمساندة من كل فرد في هذه الجالية».
أما على المستوى الاقتصادي فتتميز الجالية بأعداد كبيرة من الأطباء والجراحين والمهندسين ورجال الأعمال فهناك ما يقارب مئة وخمسين طبيبا وجراحا، فيما يعمل آخرون مهندسين في شركات صناعة السيارات الأميركية الثلاثة الكبرى، ومعظم أبناء الجالية هناك رجال أعمال وأصحاب مشاريع صغيرة أو متوسطة، وجزء منهم عمال أو موظفون.
وقد ساهمت فعاليات في الجالية العربية في دعم الأجيال العربية الجديدة في فلنت على المستوى الأكاديمي والعلمي فقد أنشأ مطلع هذا العام رجل الأعمال اللبناني الأميركي راسيل عبيد، مدير شركة «غارديان» الصناعية ورئيس شركة «غارديان» للزجاج، برنامجا للمنح المدرسية في جامعة كترينغ بقيمة مليون دولار يستمر لمدة 25 عاما يقدم من خلاله المساعدة للطلاب العرب الأميركيين في هذه الجامعة، ويتوقع ان يساهم هذا البرنامج في مساعدة 71طالبا عربيا.
المركز الإسلامي
تعتبر الجالية العربية التي تسكن منطقة فلنت أنها من أكثر الجاليات ترابطا فيما بينها وعطاءاً، لذا فقد أقام مجموعة من أوائل المقيمين المتيسرين في فلنت مسجدا قبل أكثر من 20 عاما، جعلوه وقفا إسلاميا بعد أن كانوا يؤدون صلاتهم في البيوت. ويقول عبد الحكيم خرفان وهو من المقيمين هناك منذ عقود، أن الجالية قامت عام 1994 ببناء المركز الإسلامي في فلنت ويضم مسجدا ومدرسة يطلق عليها «أكاديمية جينيسي» بدأت بـ50 طالبا وطالبة والآن وصل عدد الطلبة فيها إلى 150. ويرى خرفان أن الأكاديمية «هي من المدارس المتميزة على مستوى المقاطعة والولاية»، يتم فيها تدريس الدين الإسلامي واللغة العربية إضافة إلى المواد العلمية واللغة الإنكليزية وبقية المواد الأكاديمية. ويضيف خرفان «معروف عن طلابها تفوقهم في مادتي الرياضيات والعلوم بوجه خاص، لذا تراهم حين ينتقلون إلى مدارس أخرى يشهد لهم بالكفاءة والتميز»، وهذه الأكاديمية تتضمن صفوفا من التمهيدي لغاية الصف الثامن، وتكاليف الدراسة فيها يدفعها أولياء أمور الطلبة، لكنه وبحسب خرفان هناك صندوق للمنح في المركز لمساعدة أبناء الجالية غير القادرين على تحمل هذه التكاليف.
«أكاديمية جينيسي» هذه لا يقتصر عملها على الصفوف المنتظمة وإنما هي ملحق بها برامج للنشاطات الصيفية للأولاد وهناك دار الأرقم لتحفيظ القرآن وتعليم العربية، وهذه يشرف عليها ويقوم بالتدريس فيها أشخاص متطوعون من أبناء الجالية.
أما المسجد والذي يتسع لـ 500 مصل وهو يتبع مباشرة للمركز، فهو ملحق به قاعات للإحتفالات والمؤتمرات، يشهد سنويا العديد من اللقاءات ومآدب الإفطار الرمضانية، ويقوم المركز سنويا بتنظيم رحلة إلى منطقة شمال ميشيغن ترفيهية وثقافية وإجتماعية يدعى إليها خطباء ومتحدثون من أنحاء العالم، وموعدها يتزامن مع ذكرى الشهداء (مموريال) في شهر أيار (مايو)، وكان شارك فيها هذا العام زهاء ألف شخص من أبناء الجالية في منطقة فلنت وآخرون من مناطق أخرى في ميشيغن.
المقبرة الإسلامية
مع ازدياد أعداد أبناء الجالية خلال السنوات الأخيرة في المنطقة كان لا بد للقائمين على الجالية العمل على تلبية المتطلبات المستجدة. لذلك قام المركز الإسلامي مؤخراً بإطلاق مشروع تخصيص مقبرة خاصة للمسلمين والذي أصبح إنجازه قريبا حسب المشرفين عليه، مساحة االأرض المخصصة للمشروع تبلغ 30 آكر تتسع لآلاف القبور، وهي مستقلة بمعنى أنها مخصصة للمسلمين وليست ملحقة بمقابر لأديان أخرى، ويتوقع عبد الحكيم خرفان أن يستخدمها المسلمون من منطقة فلنت والمناطق الأخرى المجاورة.
يشار إلى أن رئيس مجلس إدارة المركز الإسلامي في فلنت هو الدكتور عبد المجيد الجندي وهو طبيب جراح معروف على نطاق واسع في المقاطعة، فيما أمين السر هو الدكتور عبد القادر عبد الرزاق.
مشاريع تجارية ناجحة
«صدى الوطن» جالت على عدد من المشاريع التجارية المملوكة لأبناء الجالية في فلنت فكانت المحطة الأولى في مع حامد عواد صاحب معرض «أوليمبيك» للسيارات المستعملة
واحد من رجال الأعمال في فلنت من أصل فلسطيني قدم إلى المدينة وأقام فيها قبل عشر سنوات، جذبه إليها توفر فرصة إقامة المشاريع التجارية ورخصها مقارنة بمدن أخرى في ذلك الوقت، مثل ديربورن أو آن آربر باعتبارهما أكثر المناطق جذبا لأبناء الجالية، وكان حدسه في مكانه، أقام معرضا لبيع وشراء السيارات المستعملة، سرعان ما حقق له نجاحا باهرا ليصبح واحدا من أكبر المعارض وأكثرها جذبا للزبائن في المدينة بسبب قدرته على المنافسة، و«معاملته الطيبة والأمينة خاصة للزبائن من أبناء الجالية العربية والمسلمة»، وقد طوّر نظاما للبيع والشراء والتأجير مؤخرا فريدا من نوعه، متوفر على بريد معرضه الإلكتروني، يتيح لزبائنه توفير آلاف الدولارات عند شرائهم لسيارة جديدة أو مستعملة أو حتى تأجيرها، إضافة إلى توفير الكثير لهم في حال البيع وإصلاح سياراتهم في الكراج الملحق بالمعرض بخصومات تصل إلى 03 بالمئة مقارنة بالكراجات الأخرى، والتصليح متوفر لمعظم أنواع السيارات.
وتشهد تجارة السيارات المستعملة في فلنت طفرة مؤخرا وذلك لانخفاض مستوى دخل سكان المدينة بشكل عام.
يقول حامد عواد «ليخبرني الزبون عن موديل السيارة وتاريخ صنعها والمواصفات الكمالية فيها، وأفضل سعر استطاع تحصيله من المعارض الأخرى، وليعطني بضعة ايام، لأعرض عليه سيارته التي اختارها بسعر أقل من الذي حصلّه بما يوفر له آلاف الدولارات»، أضاف «نقوم بشراء السيارات من المزادات الخاصة بتجار السيارات، والتي لا يستطيع الناس العاديون الشراء منها، يمكنني التوفير على الزبون مئات وآلاف الدولارات».
عواد واحد من عدة رجال أعمال عرب أميركيين يعملون في تجارة السيارات المستعملة في منطقة فلنت فعلى شارع كلايو في «فلنت تاون شيب»، وهي ضاحية راقية لفلنت نفسها، هناك معرض لبيع السيارات المستعملة صاحبه من أصل عربي هو أحمد عوض، أطلق على المعرض إسم إبنته «سوزان»، هذا الرجل كان استقر هناك منذ عدة سنوات وهو وعائلته يقيمون في منزل إشتراه ليس بعيدا عن مكان عمله ولكن في مدينة «فلشينغ» المجاورة، دخل إلى هذه التجارة من باب مهنته كميكانيكي، لم يكتف بالأصول التي تعلّمها في بلده حول هذه المهنة، ومارسها في شركات الميكانيك الأميركية بل التحق بإحدى الكليات المتخصصة ليحصل منها على شهادة متقدمة في الميكانيك وينطلق منها ليقيم معرضا ناجحا للسيارات المستعملة، شعاره الدائم «خدمة الزبائن وإرضاؤهم أولا وأخيرا» فهو عند بيعه لسيارة يضمن لصاحبها كفاءة سيرها على الطريق بكفاءة مدة ستة أشهر، وهو على عكس المعارض المشابهة الأخرى في المدينة يكتفي بربح معقول في مقابل إنتشار سمعة طيبة له بين الناس. لذا فقد الحق بالمعرض كراجا للتصليح يعمل فيه تحت إشرافه عدد من العمال المتخصصين، مهمته إصلاح أي خلل في السيارة قبل بيعها للزبون، وصيانتها وإصلاح أي عطل قد يطرأ عليها لاحقا.
ثم كان لـ«صدى الوطن» لقاء مع مارك زيتونة وهو عراقي كلداني قدم إلى أميركا واستقر في فلنت منذ سنوات طويلة، وقد حقق في عمله نجاحا باهرا. وهو الآن صاحب أحد الأسواق التجارية الكبرى لمواد البقالة واللحوم في فلنت «مستر بيز» على شارع بيرسون في قلب المدينة. دخلنا عنده إلى غرفة المراقبة التي يمضي فيها يوميا أكثر من 21 ساعة، يشرف بنفسه ومن خلال كاميرات المراقبة على عشرات الموظفين والعاملين داخل السوق، وعلى الداخلين والخارجين منه خشية حدوث أعمال سرقة أو عمليات سطو مسلح، نظرا لما تمثله المنطقة من خطورة عرفت عن مدينة فلنت على مدى السنوات العديدة الماضية، لذا فقد حصن موقع مراقبته بزجاج لا يخترقه الرصاص، وكان معظم زبائن السوق أميركيون أفارقة يحبذون هذا النوع من الأسواق بسبب ما توفره لهم بكل ما يحتاجونه وبأسعار رخيصة مقارنة بالأسواق الكبرى المماثلة كـ«وولمرت» و«مايرز» و«كاي مارت» وغيرها.
عرّجنا أثناء التجوال في مدينة فلنت على مطعم لبيع الدجاج والسمك المقلي على الطريقة التي يفضلّها الأميركيون الأفارقة، لصاحبه ومديره أسامة الشعار، الذي كان سبق له الاتجار بالعقارات التجارية خاصة محطات بيع الوقود وحقق من ورائها نجاحا. ويشهد هذا المطعم الصغير إقبالا واسعا من سكان المنطقة
ثم توجهنا الى محل «دولار ستور» في وسط المدينة لصاحبه سليم زرقا وهو معروف عنه إقامة محلات الدولار ستور وبيعها بعد أن تحقق نسبة إقبال كبيرة، سليم تمنى لو أن «صدى الوطن» جاءت قبل أيام معدودة لتغطية إحتفال سنوي أقيم في كنيسة «ليدي أوف ليبانون» في فلنت، وحضره مئات من العرب المسيحيين في المنطقة وسواهم.
مدينة كأنها خارجة من الحرب
لوحظ أثناء التجوال في شوارع فلنت في قلب المدينة والمناطق القريبة منها كأنها مدينة خرجت لتوها من الحرب: شوارع تكاد تكون فارغة إلا من مجموعات متفرقة لشبان يلهون أمام أحد المنازل، وبنايات مهجورة محطمة أبوابها ونوافذها، ومباني كانت لشركات ومحلات تجارية لم يبق منها سوى أنقاض يافطات، ومساحات من الأرض تكسوها أعشاب كما البرية، حتى منتزه فلنت لكثرة ما جرى فيه من جرائم قتل كان مسرحها، أقفل وأصبح مهجورا كما البنايات والشوارع المحيطة، وفي أحد الشوارع الرئيسية التي تشق المدينة رفعت يافطة سوداء كتب عليها «مدينة فلنت ترحب بكم».
أما وقد جالت كاميرا «صدى الوطن» على ضواحي تبعد عدة أميال عن مركز فلنت، فقد كان المشهد مختلفا جدا، فمدينة مثل فلشينغ وغراند بلانك يسودهما الإزدهار والأمان والجمال، تنتشر فيهما أحياء سكنية راقية وشوارع منظمة وحدائق غنّاء وحوانيت راقية، تلك هي التي استقر فيها معظم أبناء الجالية العربية والمسلمة.
في ختام الجولة ودعنا المدينة التي يسكنها مئات العائلات العربية والمسلمة متجهين الى ديربورن وكان في خاطرنا أن تكون هذه الجالية مثالا يحتذى للجاليات العربية في أماكن تواجدها في أميركا.
Leave a Reply