أسيطر على أعصابي لأنجو بنفسي عند أي محنة أتعرض لها. إنه الصوت ذاته الذي سمعته حين كنت طفلة وتسلقت غصناً عالياً في شجرة التين وعجزت فجأة عن التقدم أو التراجع وأصبت بهلع عظيم، وكذلك ابي الذي -ربما أكثر مني- خاف علي من السقوط. لكنني لم أسقط بسبب حكمة أبي.
لم أكن صغيرة حين اختطف الموت أبي. كنت بعمر يدرك جيداً معنى الموت. كانت تربطني به علاقة متميّزة، أسمى وأروع علاقة بين أب وابنته. لقد كنا رفيقين، ومن خلال مرافقتي له وسماعي لفلسفته البسيطة الساخرة كنت أتصور أن الموت راحة وخلاص من عذاب الحياة ومشقة العمل في الحقل أو استراحة مقابل المعاناة اليومية المستمرة في مقارعة الطبيعة والبشر والفقر.
كنت أحسب أن الموت هو ملجأ تهرب إليه الروح من قسوة الحياة والحرب وقلة الأمان والفلتان الأمني الذي ضرب لبنان في سبعينات القرن الماضي، وانتشار الانكسارات والهزائم والمشاعر الاستسلامية في مواجهة عدوانية وشراسة مع إسرائيل التي كانت تستبيح حقول وكروم جنوب لبنان.. موطن أبي ووجعه.
عندما جاءني من يخبرني بوفاة أبي، تألمت لكني لم أبك، اعتقدت أن أبي مسافر في رحلة قصيرة وسيعود. وأنه غادر ليرتاح قليلاً وقد أغمض عينيه المتعبتين حتى صباح بعيد، لكنه سيفتحهما بعد قليل ويرجع ليغمرنا بدفئه وحنانه.
لقد احتجت عمراً كاملاً حتى استوعبت ما كان أبي يقوله: ”الموت هو الحقيقة الوحيدة، الأزلية في الحياة” ورغم ارتفاع ذلك الجدار الكثيف بيني وبينه لا زلت أشعر بروحه الطاهرة تحلق قريباً محمولة فوق جناحي ملاك، ولا زلت ارسم وجه أبي فوق الغيوم العابرة وأترنم باسمه في السر والعلن وأناديه بامتنان يغمر قلبي، لأنه حتى بعد موته بزمن طويل مازال يمدني بالقوة والشجاعة والقدرة على الصبر في متاهات حياتي.
لقد علمني أبي أن بوسع الإنسان حين تحيط به النار أن ينصهر ليتشكّل من جديد نقياً وقوياً واكثر حكمة. علمني أن الحقيقة قاسية ومرة ولكن ذلك ليس سبباً كافياً لنعرض عنها، بل على العكس لا بد من التحديق فيها ومواجهتها.
كومض البرق، كان رحيل أبي. لحظات سريعة أوقفت قلبه الكبير دون إنذار أو تحذير. كان ذلك حلمه، أن يغمض جفنيه المتعبين بسلام. ولا أنكر أنني شعرت براحة عندما تحقق حلمه لأني كنت أدرك مدى عذابه وألمه مقابل قسوة اليتم والأيام. وحتى اليوم لم أبكِ موته، فهو مازال معي كأنه غادر الشرفة للتو، ورائحة سجائره ما زالت عالقة على كل شيء، وابتسامته الشفافة الهازئة الساخرة تملأ الدنيا رافضة عناد الأيام وقسوة الوجع.
الآن، وقد بلغت السن التي قال عنها أبي أن المرء لا بد أنه سيبلغها ذات يوم، أشعر بقرارة قلبي بغصة أمام الذين أنعم الله عليهم بآباء أحياء رائعين كأبي، لكن للأسف البعض منهم لا يعرف قيمة ذلك، فلا يسعون للاستفادة من خبرات آبائهم، ولا يغرفون من نبع بركتهم، بل على العكس، في أحيان كثيرة تزعجهم رفقة آبائهم ونصائحهم تسبب لهم تلبك في المعدة. هؤلاء الأبناء لا يدركون كم تساوي حكمة الأب وحنانه وحكمته، وبكل محبة أقول لهم: أيها الأبناء العاقون.. أحبوا آباءكم قبل فوات الأوان!
ويا أبي، أيها الجنوبي الرائع الحنون الأمي، لولا حكمتك ومحبتك لي وتشجيعك لحب الحرف وعشقه، لكنت الآن واحدة من آلاف النساء الأميات المحرومات من نور المعرفة والمرصودات للعيش في ظلمة الجهل. لولا الماضي الغابر مع دروسك وتجاربك لما قدرت على صياغة حاضري في دروب هذه الحياة الصعبة وما كانت لدي القدرة للسيطرة على أعصابي لأنجو بنفسي وأربحها ولا أبالي إذا خسرت العالم كله.
لا أكتب لأرثيك، بل أكتب لأقول ما لم أستطع أن أقوله يوما، ولأقدم إليك رسالة امتنان وتقدير وشكر؛ شكراً يا أبي، شكراً لك أيها اللامنسي.
Leave a Reply