صبحي غندور
هناك مزيج يفعل فعله الآن، ليس فقط في صناعة الرأي العام، بل أيضاً في صناعة الأحداث نفسها. وهذا المزيج يقوم على الدور الخطير الذي تلعبه الشبكة المعلوماتية وملحقات الهواتف النقالة في تحويل وسائل «الإعلام» و«التواصل الإجتماعي» إلى وسائل «تحريض» أو «تغيير» أو «تضليل»، بل ربما أحياناً وسائل «فتنة»، فالأمر يتوقف على الأجندة السياسية لمن يملكون هذه الوسائل وأيضاً على ما يتوفر لها من «تسريبات معلوماتية» أو شبكة مصالح خاصة مرتبطة بشركات أو جهات خارجية.
إنّ الإعلام، في أيّ مكانٍ أو زمان، هو وسيلة لخدمة سياسة أو ثقافة أو مصالح معيّنة. وهذا ما انطبق أيضاً على مرحلة نشوء الإعلام العربي في مطلع القرن الماضي حيث كان الإعلام «العربي» انعكاساً لصراعات السياسات والمصالح والمفاهيم التي سادت في ذاك الزمن. ولذلك وجدنا أنّ الدول الغربية الفاعلة آنذاك خاصّةً بريطانيا وفرنسا–حرصت على موازاة تأسيس الكيانات العربية الراهنة، واحتلال بعضها، بتكوين مؤسسات إعلامية، تخدم الطروحات الثقافية الغربية وتعزّز أعمدة التقسيم الجغرافي الجديد للمنطقة. ومن أجل ذلك كانت الحاجة الغربية لمنابر إعلامية، ولأدباء وكتّاب لا ينتمون فكرياً وثقافياً إلى المدافعين عن «الهويّة العربية». فالغرب أدرك أنّ تجزئة المنطقة العربية، عقب الحرب العالمية الأولى، تتطلّب محاربة أي اتّجاه وحدوي تحرّري عربي مهما كان لونه، تماماً كما أدرك الغرب في مرحلةٍ سابقة أنّ إسقاط الدولة العثمانية ووراثة أراضيها يستدعي إثارة النعرات القومية بين الأتراك وغيرهم من المسلمين في العالم. لهذا تميّزت الطروحات الثقافية لمطلع القرن العشرين بألوان قومية أولاً (في تركيا وفي البلاد العربية) مدعومةً من الغرب، ثمّ جرى الفرز الغربي فيما بعد بين تعزيزٍ للطرح القومي التركي، وبين محاربةٍ للطرح القومي العربي بعد أن استتبّ الأمر لبريطانيا وفرنسا في المنطقة، وأُقيمت الحدود والحواجز بين أبناء الأرض العربية الواحدة.
وفي المرحلتين، استهدِفت أيضاً الهُويّة الحضارية والثقافية للأمّة العربية لأنّها تعارضت مع المشروع الغربي الاستعماري بوجهيه (هدم الدولة العثمانية أولاً، ثمّ بناء الكيانات العربية الإقليمية والسيطرة عليها بشكلٍ لا يسمح بوحدتها في المستقبل).
لكن من الضروري الإشارة إلى مسألتين تجنّباً للتعميم فيما سبق ذكره:
– المسألة الأولى: أنّ الإعلام العربي في مطلع القرن العشرين (وهو هنا إعلام الصحافة) لم يكن كلّه تغريبياً، بل ظهرت مطبوعات عربية كان لها الأثر البالغ في إحياء حركة الإصلاح الديني والدعوة للنهضة الحضارية العربية («العروة الوثقى»، و«المنار»).
– المسألة الثانية: أنّ الكثير من الأدباء والكتّاب المسيحيين العرب قد لعبوا دوراً هامّاً في الحفاظ على اللغة العربية وتنقيتها وتخليصها من الشوائب التي لحقت بها في عصور الانحطاط، وكذلك في إعداد مجموعات كبيرة من كتب قواعد اللغة العربية (البستاني، اليازجي)، وكان لهم الفضل أيضاً في استيراد المطابع وتسهيل عمليات النشر والطباعة وتكوين النواة التقنية لمؤسسات إعلامية عربية كبيرة.
***
في النصف الثاني من القرن العشرين، وبعد استقلال الدول العربية عن الانتداب الأجنبي، تميّز الإعلام العربي عموماً بإخضاعه للرقابة الحكومية. وكان لبنان، في تلك الفترة، استثناءً إلى حدٍّ ما على صعيد الحريات الإعلامية خاصّةً في مجال الصحافة. ويمكن القول أنّ حصيلة التجربتين الإعلاميتين في المنطقة العربية (أي الانفتاح الكامل في لبنان والانغلاق الكامل في غيره بشكل عام) لم تساعد في صيانة وحدة المجتمعات العربية أو تذويب الانقسامات داخل البلد الواحد.
إنّ الاستثناء اللبناني في مجال الحريات الإعلامية العربية، خلال عقود ما بعد مرحلة الاستقلال، لم يمنع مثلاً من تفجّر الأزمات السياسية والأمنية داخل هذا البلد، بل على العكس، فالصحافة في لبنان تحوّلت في تلك الفترة إلى سلع تُباع وتُشرى من أطراف عربية ودولية لتكون منابر إعلامية تخدم هذه الجهات في صراعاتها ومشاريعها بالمنطقة العربية.
فللأسف تظهر في مراحل مختلفة أصواتٌ وأقلامٌ عربية تكون هي أيضاً عنصراً مساهماً في إشاعة مناخ الانقسام الطائفي والمذهبي بين أبناء الأمّة العربية، حيث تكرّر تصنيفاتٍ وتسميات كانت في الماضي من الأدبيات الإسرائيلية فقط، فإذا بها الآن تتقدّم التحليلات السياسية لبعض الأقلام العربية، وأصحابها يتنافسون على الفضائيات وعلى صفحات الجرائد فيما يؤدّي إلى مزيدٍ من عوامل الانقسام والانحطاط في أحوال الأوطان والمواطنين!
ولقد تحوّل الإعلام العالمي في السنوات الأخيرة إلى صناعةٍ قائمة بذاتها، بل إلى مؤسسات تجارية كبرى مثلها مثل باقي الشركات والمؤسسات المالية التي تتحكّم في كثيرٍ من اقتصاديات العالم.
وتكفي الإشارة إلى أمثلة محدّدة حتّى ندرك خطورة ما يحدث على صعيد الإعلام في العالم وانعكاسه على بلادنا العربية وقضاياها المتعدّدة. فروبرت موردوخ، مثلاً، وهو من أصل أسترالي ومعروفٌ بتأييده الكبير لإسرائيل، يملك امبراطوريةً إعلامية كبيرة تشمل الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا وأكثر من خمسين بلداً في العالم. وتضمّ إمبراطوريته، عدّة صحف ومجلات ودور نشر وشبكات تلفزيونية وشركات سينمائية معروفة عالمياً.
مثالٌ آخر، شركة «جنرال إلكتريك» في أميركا، هي نفسها مالكة لشبكة NBC ولعددٍ آخر من وسائل الإعلام الإذاعية، أمّا شركة «والت ديزني» فقد حازت على ملكية شبكة ABC الإخبارية المشهورة في أميركا، وصحيفة «واشنطن بوست» أصبحت مملوكة الآن من جيف بيزوس الملياردير الأميركي مؤسس شركة «آمازون» المشهورة.
طبعاً هذه الشركات لها مصالح وسياسات خاصّة داخل أميركا وخارجها، وهي تلعب دوراً كبيراً في صنع السياسة الأميركية وفي ترشيح العديد من الأشخاص للمناصب الحسّاسة في الولايات المتحدة. لذلك من المهمّ التساؤل عمّا يخدمه الإعلام وليس فقط عن من يملكه.
هو الآن، في عموم العالم، عصر التضليل السياسي والإعلامي. فالتقدّم التقني، في وسائل الاتصالات والشبكات العنكبوتية وإعلام الفضائيات، اخترق كلّ الحواجز بين دول العالم وشعوبها. وأصبح ممكناً إطلاقُ صورةٍ كاذبة أو خبرٍ مختلَق، ونشره عبر هذه الوسائل، لكي يُصبح عند ملايين من الناس حقيقة. هو أيضاً، كما كان في القرن العشرين، عصر «المال والإعلام»، ومن يملكهما يملك قدرة التأثير على صنع القرارات السياسية. هكذا فعل «اللوبي الإسرائيلي» في الغرب عموماً، وفي أميركا خصوصاً، من حيث تركيزه على المؤسسات المالية والإعلامية في الغرب.
لذلك، من المهمّ أن يُعنى الآن المفكّرون والمثقّفون والإعلاميون العرب بحجم مسؤولياتهم في صنع الرأي العام العربي، وبالتفكير في كيفيّة الوصول إلى مستقبل عربي أفضل، لا الاكتفاء بالتحليل السياسي للواقع الراهن فقط أو بترديد ما هو يخدم المصالح الخاصة وأجندات الجهات الداعمة لها.
Leave a Reply