لم تعد الكتابة عن الوضع اللبناني ومحاولة تحليل ما يعتريه من مشاكل ومعضلات، تجدي في العثور على أجوبة شافية عن اللحظة الراهنة، أو عن المستقبل القريب، فضلا عن البعيد. فهذا الوضع بات أقرب الى مجموعة من الأحجيات السياسية والأمنية، حمالة الكثير من الأوجه والعديد من الاحتمالات التي لا تثبت على تطور حتى ينسخه تطور آخر، وهكذا دواليك في حلقة مفرغة ومقفلة منذ أن دخل البلد في أزمته المتمادية على وقع اغتيال رئيس حكومته السابق رفيق الحريري في 14 شباط العام 2005.
لنتسلّ معا بعينة من هذه الأحجيات، قبل أن تفقد بريقها مع تطورات جديدة عودتنا الساحة اللبنانية على “استضافتها” في عرض متواصل أخذ يتضاءل جمهوره يوما عن يوم، ويفقد الرغبة في متابعتها، وبعدما فقد الممثلون على خشبة مسرحها القدرة على الإمتاع:
– ثمة حكومة “وحدة وطنية” تشارك فيها كل القوى السياسية، الطائفية والمذهبية، و”العلمانية” أيضا. في كل يوم ينبري فريق من فرقاء “الوحدة الوطنية” للتشنيع بشركائه فيها وعرض مثالبهم والتحريض عليهم!
– ثمة رئيس للجمهورية “توافقي” انتخب بإجماع كل الفرقاء بعد جولة عنف سياسية ودموية، يجري التصويب عليه في مناسبات “مختارة”. احد الأفرقاء (الجنرال عون) وصفه مؤخرا بأنه لا يملك إلا البكاء!
– يقف حليف للجنرال (سليمان فرنجية) منتقدا بصورة مبطنة حليفه على هجومه على الرئيس ويعلن “أنا لن أنتقد الرئيس.. اذا كان لدي ملاحظات أحملها اليه.. يصطفل الجنرال.. أنا ما بدي انتقد الرئيس”.
– الفريقان الحليفان، جنرال الرابية وبيك زغرتا حليفان وثيقان لسوريا (حلّوها!).
– تندلع جولة عنف مفاجئة في برج أبي حيدر بين فريقين حليفين، فيما بينهما ولسوريا. يسقط قتلى، يحدث خراب.. يقول الفريقان إنها “حادثة منعزلة” واسبابها “تافهة” ولا خلفيات سياسية لها!
– يخرج رئيس الحكومة وتخرج معه أصوات مطالبة بجعل بيروت منزوعة السلاح. تتصدى له ولها أصوات مضادة تتهمهم بالتآمر على سلاح المقاومة.
– يتفقد رئيس “حكومة الوحدة الوطنية” ساحة المعركة والأضرار التي خلفتها. تخرج أصوات متهمة إياه بالتمييز بين المناطق.
– يتراجع رئيس الحكومة عن مطلب بيروت منزوعة السلاح. يوضح أن المقصود ليس سلاح المقاومة، بل سلاح الفوضى الذي يتنشر بين أيدي مواطنين ويشكل خطرا على أمن وسلامة باقي المواطنين.
– يذهب رئيس الحكومة الى دمشق لتناول “السحور” مع الرئيس السوري. يعود الى بيروت. يعلن بعد الزيارة بخطأ الاتهام السياسي لسوريا باغتيال والده. يعترف بأن هذا الاتهام كان متسرعا وآذى العلاقة بين البلدين الشقيقين. يضيف: شهود الزور أساؤوا الى سوريا مثلما أساؤوا الى عائلته، ويدعو الى انهاء مفاعيل شهاداتهم وترك المحكمة وحدها لتحقيق العدالة ومحاسبة من ارتكبوا الجريمة.
– يحدث الموقف المتطور جدا لرئيس الحكومة أصداء ايجابية وارباكا في صفوف فريقه السياسي.
– يخرج الضابط السابق اللواء جميل السيد، بعد عودته من لقاء الرئيس السوري الى مؤتمر صحفي، يهدد فيه بصراحة رئيس الحكومة بالنيل منه شخصيا وأخذ حقه بيده اذا لم يحصّل له حقه.
– تخرج أصوات مدافعة عن رئيس الحكومة من صفوف فريقه كما من صفوف أخصامه و”الحلفاء” المفترضين لأخصامه تشيد بشجاعته وتدعو الى الكف عن مهاجمته (نواب حركة أمل ورئيس اللقاء الديمقراطي وليد جنبلاط).
-ينبري الجنرال عون حليف سوريا و”حليف حلفاء سوريا” الى دعم اقوال الضابط والى الدعوة للتمرد على احد الأجهزة الأمنية (فرع المعلومات) ووصفه بالعصابة المسلحة، يدعو أيضا إلى عدم الانصياع لأوامر مدعي عام التمييز، وهو أبرز سلطة قضائية، ويدعو الى وضعه ومدير عام قوى الأمن وقاض آخر في عهده لجنة تحقيق نيابية.
أكثر من ذلك يصف عون الدولة من رأسها الى أخمص قدميها بـ”العصابة المافياوية”، في دعوة شبه صريحة الى تفكيكها على عجل وإعادة تركيبها وفق “اصلاح وتغيير” لم يتحقق منه شيء. لا ينتبه الجنرال الى أنه جزء من هذه “العصابة”.
– تبعث سوريا باشارات عن عدم علاقتها بالصراع الداخلي بين اللبنانيين وتطلب منهم عدم زجها في هذا الصراع.
– يطالب “حزب الله” (على لسان رئيس كتلته النيابية النائب محمد رعد) بالغاء 73 قرارا وزاريا على رأسها آلية تشكيل المحكمة الدولية. باعتبار أنها صدرت عن حكومة لا شرعية (حكومة الرئيس السنيورة).
– تتهم أمانة 14 آذار (أو ما بقي منها) “حزب الله” وحلفاءه بمحاولة القيام بانقلاب على الحكومة وبيانها الوزاري.
– ترد مصادر “حزب الله” بأن من قرأوا تصريح رعد أساؤوا تفسيره، فهو لا يدعو الى الغاء المحكمة، بل الغاء جزئية آلية تشكيلها.
– يصرح رئيس الحكومة أن مواقف سوريا يعبر عنها سفيرها في لبنان وليس أي فريق سياسي لبناني.
– ترد جريدة “الأخبار” بأن الرئيس الأسد خيّر الرئيس الحريري بين المحكمة والحكم.
– يعرب رئيس مجلس النواب عن اطمئنانه الى استمرار مفاعيل سين –سين (التفاهم السوري-السعودي).
– تصدر النيابة العامة التمييزية مذكرة جلب الى التحقيق بحق اللواء جميل السيد بناء على طلب وزير العدل، بتهمة تهديد رئيس الحكومة، والعمل على ضرب هيبة المؤسسات.
– ينبري رؤساء حكومات سابقون الى الدفاع عن موقع رئاسة الحكومة واستنكار التعرض للمقامات (الرئيس ميقاتي).
– يخرج شاهد الزور محمد زهير الصديق الى دائرة الضوء الاعلامي مجددا من “ملاذه الآمن” للحديث الى جريدة “السياسية” الكويتية المعروفة بعدائها لـ”حزب الله” باتهامات متكررة له بالضلوع في اغتيال الحريري..
– يتساجل اللواء جميل السيد مع السفارة المصرية التي اتهم احد دبلوماسييها بالتحريض والتفرقة بين اللبنانيين. ترد السفارة المصرية ببيان، تنفي تهم السيد وتدافع عن دبلوماسييها.
– يضطر الرئيس التوافقي ميشال سليمان الى التحذير من خطورة تجاوز المؤسسات والطعن في وجودها ودق ناقوس الخطر المحدق بالدولة والكيان.
– ينشط البطريرك الماروني في محاولة يائسة لجمع الصف المسيحي.
– يجدد رئيس الكتائب هجومه على “حزب الله” وسلاحه ويعيد ابن الأخ النائب نديم جميل اتهام سوريا بعمليات الاغتيال من والده بشير الى الرئيس الحريري، وهما من حلفاء رئيس الحكومة.
– قبله يتباهى ابن عمه وزميله في النيابة “فتى الكتائب” الجديد سامي الجميل بتاريخ العلاقة مع اسرائيل.
– تخرج أصوات مطالبة برفع الحصانة عنه ومحاكمته ثم تتلاشى في معمعان الاحتراب الكلامي اليومي بين افرقاء “الوحدة الوطنية”.
-تخفت الأصوات المطالبة بتعليق المشانق لعملاء اسرائيل مع الحرج الذي تسبب به توقيف أحد معاوني جنرال “الممانعة والمقاومة” البارزين (العميد السابق فايز كرم) بتهمة العمالة لاسرائيل ويسمع اللبنانيون لأول مرة “تبريرا” لعمالة المذكور التي تسبب بها “اضطهاد الدولة لهم” خلال حقبة الوجود السوري! وبأنه “لم يقدم الى العدو معلومات يعول عليها”!
تلك عينة من الأحجيات والغرائب اللبنانية، ليس المطلوب الدوخان في حلها، بل اعتبارها مادة للتسلية الى حين أن يقرر المخرجون الكبار تنحية الممثلين اللبنانيين واخراجهم عن خشبة المسرح.
ولا بأس لو “تسلينا” معا بهذين البيتين للشاعرة اللبنانية زهرة الحر.
لنا وطن ذبحناه وأحرقنا بقاياه
ولم يسلم به شيء سوى ما قدر الله
Leave a Reply