تتمتع مدينة ديربورن بخصوصية مثيرة ناتجة عن مزيج آسر من الاختلاط الثقاقي والاجتماعي بين الشرق والغرب، الأمر الذي يجعلها وجهة مقصودة للكثيرين ممن يريدون تذوق الأطعمة العربية، والاستمتاع بصحبة الرفاق والسهر والسمر معهم فـي ليالي الصيف الخلابة، وهو أمر يتعذر على الكثيرين مصادفته فـي أي مكان آخر، فـي بلد يكاد يبدو خاليا من الناس والنشاطات الاجتماعية بعد الساعة العاشرة مساء، اللهم إلا من المراقص والبارات التي لا يروق لمعظم العائلات العربية ارتيادها.
هذه الميزة التي تبدو إيجابية فـي الظاهر، تتحول فـي أحيان كثيرة إلى نقمة، خاصة لما ينتج عنها من ضجيج وضوضاء مقلقة لراحة السكان، ليس من خلال أماكن السهر التي تنشر طاولاتها على الأرصفة وتذيع حفلاتها عبر مكبرات الصوت، وإنما أيضا فـيما عنها ينتج من سلوكيات غير لائقة من قبل عشاق السهر، ففـي أحيان ليست بالقليلة تنتهي السهرات بالمشاكل والصراخ واستحضار الشرطة.
وهذا الأمر، يستدعي مراجعة فورية لأخلاقياتنا وتقويم سلوكياتنا بما يضمن حقوق الآخرين واحترام خصوصياتهم وأوقات راحتهم، فالمثل العربي يقول «إنْ كُنتُم غرباء فكونوا أدباء» والمثل الآخر يقول «الجار قبل الدار».
لقد أصبحت ظواهر السلوك المتهور وانعدم اللباقة الاجتماعية مصدر قلق لجميع المقيمين من سكان ديربورن وزوراها، فالسيارات والدراجات النارية المسرعة التي تطوف الشوارع السكنية بضجيجها المزعج والمتعمّد لا يعبّر بأية حال عن أي مظهر حضاري أو إنساني يقيم للقاطنين أو الزائرين اعتبارا أو احتراما.
كما أن القيام بجولة خاطفة على شارع «وورن» العربي، بين شارعي «وايومنغ» و«غرينفـيلد»، يكشف لنا على الفور أن بعض السائقين من أبناء وبنات جاليتنا يبدون وكأنهم قد نسوا وظيفة الإشارات الضوئية والإشارات المرورية التي تحدد السرعات القصوى وقواعد الوقوف والانعطاف والتجاوز وغيرها.
دائما ستجد مراهقا من ماركة «والله برو» وهو «يحورق» بسيارة سبور فاخرة ويكاد يصدم مؤخرات السيارات التي تصادفه بفعل قيادته المتهورة، ويقطع طريق السيارات الأخرى (شو برو؟!).
هذا ليس مشهداً لطيفاً أبداً ولا يمثل ثقافتنا ولا يعبر عن سلوكياتنا وأدبياتنا، لكن للأسف هذا ما يراه مواطنونا الأميركان عندما يأتون إلى مدينتنا.
ظاهرة أخرى منفرة تتنشر بين أبناء جاليتنا الذين لا يتورع بعضهم عن رمي المهملات والنفايات فـي الطرقات، حتى باتت شوارع المدينة مثالا للتلوث البصري.كما بات مألوفا وشائعا أن ترى بعض أطفالنا وهم يلعبون ويجوبون الشوارع من دون إشراف ولا رقيب فـي فضاءات احيائنا السكنية المزدحمة بالأصل والبعض منهم يفعل ذلك بعد منتصف الليل.
شوارعنا تعج بالسيارات، فـي حين أن المداخل امام بيوتنا فارغة تماماً لأن بعض السكان يجدون أنه من الأسهل ركن سياراتهم فـي الشارع، أما البعض الآخر يقوم بإطلاق زمامير سيارته باستمرار لتنبيه أصدقائه أو أنسبائه بوصوله الميمون، أو لاستدعائهم اليه، من دون مراعاة لصفو الحي بأكمله عبر هذا السلوك المزعج.
الجولة سيراً على الأقدام فـي شرق ديربورن تشكل هي الأخرى تحدياً مماثلاً. فالسائقون المراهقون يقومون دائما بمضايقة المارة والتحرش بهم، حيث تنتقل البلطجة المستشرية فـي مدارسنا إلى الشوارع. وغالباً ما يقوم البلطجيون بتخفـيف سرعة سياراتهم ثم يقومون بفتح نوافذهم ويبدأون بتوجيه عبارات نابية للمارة أو يطلقون تعليقات مهينة حول مظاهرهم وأشكالهم الخارجية.
كل هذا يدعونا للاستنتاج بأن هنالك – بشكل عام – موقف عام فـي هذه الجالية يتلخص بعدم اهتمامها بكيفـية تأثير هذا السلوك على محيطنا.
لكن الخطأ لا يقع كله على كاهل السكان وحدهم، فهناك تقصير فاضح من قبل الشرطة من خلال تواجدها القليل فـي الأحياء، مما يفتح باب الشغب على مصراعيه ويمنع إيقافه عند حده، كما يبدو أن البلدية استقالت من مسؤولياتها فـي شرق ديربورن، حيث وفقاً للكثير من السكان، أن خدمة كنس الشوارع لم تعد عملية ثابتة ومتسقة، إضافة إلى أن نقص الاعتمادات المالية أدى إلى انتشار حفر كبيرة فـي الطرق والأزقة التي طمرتها القمامة.
هذا التدهور المتزايد مريع جداً وسوف يترك آثاره علينا جميعاً على المدى البعيد، فانتشار القمامة والضوضاء والازدحام كلها أسباب تدفع السكان للهروب، أفرادا وجماعات، من ديربورن، مما يقلل، إذا حصل بتواتر متزايد، من قيمة الممتلكات العقارية والعائدات الضريبية فـي المدينة.
هذه المظاهر هي من علامات المرض المديني الذي أطاح بمدنٍ عريقة، بل بحضارات كبيرة، فالانحطاط يبدأ من البيت ليصل إلى الشارع ثم الحي السكني ليطال كافة أطراف المدينة، وما حصل لمدينة ديترويت لهو خير مثالٍ على ذلك.
يجب إعلان حالة الطوارىء الإجتماعية والقيام بإجراء الإصلاحات الضرورية التي يجب أن تبدأ الآن الآن وليس غداً، والإصلاح المرتجى يبدأ من كل فرد فـينا، نحن نعيش تحت خطر الهجوم المستمر من المتعصبين المتربصين والجهلة الحاقدين والعنصريين الممسوسين وأي عمل يقوم به فردٌ واحد منا سينعكس على الجميع. إننا تحت المهجر.
فلنقم حقاً بتمثيل تراثنا الحضاري الرائع والالتزام بعاداتنا وتقاليدنا الاخلاقية التي لا يُعلى عليها فـي أي مجتمع آخر، ولنحتذِ ونحترم مبادئ وأصول التعامل بشكل صحيح لنكون مواطنين مثاليين وقدوة فـي هذا المجتمع ما استطعنا الى ذلك سبيلاً. كفانا تشويهاً مجانياً لصورتنا وقيمنا ومبادئنا التي نسيء إليها من حيث ندري أو لا ندري. إننا نتلقى جرعات كافـية عبر الصور الخارجية المرعبة من الخارج حيث يتكفل الإرهابيون والتكفـيريون بنسف كل المفاهيم الجميلة والحضارية فـي تراثنا وثقافتنا رغم أنهم غير محسوبين علينا فـي الأصل، فلا يجب أن نساهم -نحن هنا- فـي هذا التحطيم والتهشيم المتعمَّد!
لنبدأ بأنفسنا فإذا رأى أحدكم بعض القمامة على الرصيف قليقم بانتشالها ورميها فـي سلة المهملات، ولكن قبل هذا وذاك لا تكن أنت البادئ برمي المهملات فـي الشارع أو فـي المكان غير المخصص لها، وإذا كان جيرانك يسهرون ليلاً فـي حديقة بيتهم الخلفـية وتتعالى أصواتهم وتقلق الآخرين فقم بتنبيههم إلى ذلك بطريقة مهذبة، واذا صادفت أية سلوكيات غير قانونية فاستدع الشرطة فوراً وحث أطفالك على التصرف باحترام وتوقير الآخرين.
نحن جالية فتية شابة من ناحية التركيبة السكانية. ومع سن الشباب، يأتي التهور، ولذلك مسؤوليتنا مضاعفة فـي توجيه أطفالنا وتأديبهم وتمكينهم بالاتجاه الصحيح، لا نحو البلطجة والتسلط والفوضى والفشل!.
وتوجيه شبابنا لا يمكن أن يكون ضمن مسؤولية الوالدين وحدهما، فهناك فجوة وصراع بين الأجيال، وفـي بعض الحالات هناك حواجز لغوية وثقافـية بين الأطفال وأولياء أمورهم، ومن هذه الثغرة يجب أن تنفذ منظماتنا المتكاثرة، ما شاء الله، لكي تتدخل لمساعدة الأسر على تصحيح الخلل وتصويب سلوك الأولاد، كما يجب على مؤسساتنا الدينية ونوادينا الاجتماعية والثقافـية والمدارس تقديم المساعدة الفعلية، لا الشفهية، وتقديم النصح والمشورة للشباب ليصبحوا مواطنين أفضل، يعرفون حقوقهم وواجباتهم على حد سواء.
ولا يجب أن يُنظر إلى انتقاداتنا للسلوك الشائن لبعض الأفراد بأنه إغفال عن نجاحات ومساهمات العرب الأميركيين فـي مختلف المجالات الفكرية والاقتصادية والمهنية، ذلك أن المهاجرين من بلدان الشرق الأوسط وأطفالهم أنجزوا للجالية ما يجعلها تعتد وتفخر به، من مساهمات أغنت هذه المنطقة ثقافـياً واقتصادياً وعمرانياً.
خلاصة القول، علينا الحفاظ على ما بنيناه، وهذه القضايا التي طرحنا بعضها والمتعلقة بتراجع اللباقات الاجتماعية ليست متأصلة فـي ثقافتنا، وإنما هي دخيلة وطارئة، ولكن الخطر يكمن فـي إمكانية ترسيخها من قبل بعض أفراد جاليتنا القلائل.
سبب كتابتنا هذه ودافعها هو تشخيص المشكلة، وقديما قيل: تشخيص الداء هو نصف الدواء!
Leave a Reply