بقلم: فاطمة الزين هاشم
تأتي الصدف أحياناً بنتائج لم يكن بمقدور التخطيط أن يحقّقها، فقد نخطّط لأمرٍ ونسعى للوصول إليه، لكنّ ذلك التخطيط قد يصطدم بمعوّقات الواقع فيؤول إلى حالةٍ من الإحباط، فيما تنبري الصدف لتجعلنا أمام محصّلةٍ نحياها دون أن يكون لعامل الإرادة فينا أيّ دخل، كيف؟
خلال سفرتي الأخيرة، والتي مضى عليها أكثر من ثلاث سنوات، كان عليّ لكي أواصل رحلةَ الطيران إلى بلدي لبنان، التوقّف والمكوث في إحدى الدول الأوروبية (ترانزيت) لمدة سبع ساعات، وبينما رحتُ أنجز أوراق الدخول لذلك البلد، أخذ الموظف المختص في المطار (يتنمرد) ويطالبني بمستمسكات ليس له الحق في مطالبتي بها، فحدثت بيننا مشادة كلامية، إضطرّتني إلى البحث عن المسؤول الأعلى لأشكو إليه تصرّف ذلك الموظف الفضّ، فإذا بفتاتَين تخرجان من وراء الحاجز الفاصل بيننا، وتأخذان مني جواز السفر والأوراق، ليعيدانها إليّ خلال دقائق بعد أن أنجزتا بهدوءٍ تام، ورقة التصريح بالدخول الخاصة بي.
وحين عرفتا بأنّ جنسيّتي عربيّة لبنانيّة، وقد بان الإرهاق في ملامح وجهي، استلطفتا تهدئتي، فعرضتا عليّ الخروج برفقتهما إلى المدينة كون الوقت لديّ متسعاً، بالإضافة إلى تزامن وقت مغادرتي مع انتهاء وقت عملهما، كانت الأولى جزائريّة والثانية تونسيّة وكلاهما تعملان بوظيفة مضيّفة أرضيّة، ولمّا كنت وجدت فيهما شهامة الموقف، سرعان ما أبديت موافقتي.
خرجنا إلى المدينة ذات الأنوار المبهرة، والشوارع المزدانة بمختلف أنواع التحف الأثريّة التي تزيّن واجهات الأبنية، تتراصف على جانبيها المحلات الأنيقة التي تعكس واجهاتها الزجاجيّة بطريقة العرض المتناسق، ذكاء منسّقيها واحترامهم لعيون المارّة، وقد بهرتني الأرصفة الخاصة بالمشاة، تلك المكسوّة بأحجار الغرانيت وبأشكال هندسيّة وزخارف فسيفسائيّة، كما شدّت انتباهي، المنازل القديمة ذوات الدعامات الخشبيّة، حيث كانت تبدو وكأنّها تحف معماريّة مُعتنى بها، العناية التي تجعل من المدينة ذات ملامح لا يمكن أن تُمحى من الذاكرة.
جلسنا في أحد المطاعم لتناول وجبة الغداء، لم أصدّق أنّني في داخل مطعم، خيِّل لي بأنني في داخل فناء من أجمل متاحف العالم وأرقاها، كانت الواجهة الزجاجية المخصّصة لأصناف الطعام وطريقة رصفها وترتيبها، مغرية لكثرة أشكالها، يخيّل للناظر إليها أنّ هناك مجموعة كبيرة من أنواع الأطعمة يصعب معها الإنتقاء واختيار مايشتهيه الزبون، لكنّ المفاجأة قد أذهلتنا، إذ اكتشفنا أن جميع تلك الأصناف الهائلة من الأطعمة، ما هي إلّا نوع واحد يُصنع من جميعها، بطرق مختلفة تجلب الإنتباه، ولكي لا أطيل على القاريء، ويأخذه الخيال إلى البعيد، فأصرّح أنّها المعكرونة أو (السباكيتي)، ضحكنا وكأنّنا لم نضحك منذ سنوات، حيث أخذَنا المقلب، وأكلنا ونحن في غاية الإنشراح رغم الخدعة.
بعدها تجوّلنا في ضواحي المدينة الممتدّة إلى أرباض الريف الخلّابة ذوات المنازل المتباعدة اللواتي يتنافسن في الإناقة والنظافة وتناسق الألوان، ولكلّ منها حديقة صغيرة تشهد أزهارها بالذوق الرفيع لمنسِّقيها، وعلى مدى البصر يمتدّ بساط من الخضرة تسرح فيها قطعان الماشية والأنعام، وهي في غاية النظافة والحيويّة ..لوحات متكرِّرة أبدعها الخالق العظيم على أيدي المزارعين البسطاء، لتشيع بهجة النظر، وتنعش الروح، وتؤكد المقولة بأنّ ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان.
كان نهاراً حافلاً بالمسرّات، مزيّناً بأخلاق تلكما الفتاتين الرائعتين صاحبتي الطبع الدمث والسلوك الرقيق، لم يتركاني حتّى أقلعت الطائرة بي من المطار.
لقد نشأت بيننا صداقة متينة، على قصر مدّتها لكنّها أتّخذت مداها الزمني دون انقطاع، حيث بقينا متواصلين عبر الهاتف والإنترنيت بواسطة التواصل الإجتماعي، حتّى أنّ إحداهما زارتني هنا في ديربورن منذ شهور ومكثت معي ثلاثة أيّام، واتّفقنا على أن نجتمع في لبنان، الصيف المقبل.
هذه الصداقة حصلت نتيجة صدفة لم تمرّ على خاطري يوماً، الصدفة التي قادتني إلى الإيمان بتماسك الأمّة، وهي نواة تماسك الشعوب، والإندماج الأخوي، والتعارف السليم، و..ربَّ أخٍ لك لم تلدهُ أمُّك.
Leave a Reply