في الحقيقة، لم أعرف كيف أبدأ هذه المرة. الأمر الذي استوقفني طويلاً من بدايته تحسباً لدقة الموضوع، وحيرني أيضاً كيف يصاغ موضوع كهذا فكثيراً ما نجلس صامتين أمام مشهد ما، يعوزنا فيه التأمل، فينعقد عنده اللسان، ونؤثر فيه الصمت على الكلام، ذلك من زخم الأحاسيس التي ما فتئت ترادونا عن نفسها، بطريقة مركبة، تجعلنا في الوقت ذاته غير قادرين على اختيار الأرجح من التعابير التي تفي بالغرض وإيصاله باقتفاء البسيط من الكلام، مما يدعوني للاعتذار سلفاً لغير المهتمين بهذا الشأن، والذين ربما لن يقرأوه.
”المرأة الحرير ” هذه، هي الفنانة أدال أبو أنطون، الآتية من بلدة ضهور الشوير المتنية في لبنان والتي تقيم حالياً بالمملكة العربية السعودية (الرياض). هذه اللبنانية التي آثرت على نفسها أن تظل تعقد الصلة وتصر على إنتاج أبجدية جديدة لينطق بها الحرير، وتخرجه عن صمته الذي كان لأكثر من ألف عام، وفي حوار حفيف ظل خمسة وعشرون عاماً دام بينهما، وعلى الرغم من أن الحرير، هذا المخلوق النادر، كان يتنقل بثقة حول العالم من آسيا الوسطى في قوافل مبجلة تصل إلى روما في أوروبا خلال طريقه المعروفة بـ ”طريق الحرير ”، هذا إلا أنه لم يكن يتعدى كونه خيطاً وإن علا شأنه على غيره من شتى الملل، آخذاً الصدارة وموضعه الأساس، في أحضان القصور الفارهة، والتي كانت تتزين أرضياتها وربما حيطانها بحلته الرائعة، وكذلك الحلل القشيبة، لأصحاب النفوذ والسلطة، ومع هذا كان لا يتعدى كونه ”سجاداً أخرس ”. مما حدا بفنانتنا بحوارها هذا، أن تنتقل به من الحرفية، إلى فضاء الفن، ليعبر عن ذاته، إلى المنتهى. لقد جعلت فنانتنا هذا الخيط يلهث خلفها ينتقل من الحرفية التقليدية التي مورست عليه ربما حتى عصرنا هذا، وجعلتنا ندرك الفرق بين المكننة أو حتى اليدوية الرتيبة على خطى ”الباترون ” واقتفاء الأثر المنمق، لتحقيق صورة ما، لا تخلو في النهاية من كونها تنميطاً موغلاً في الحرفية، التي هي في نهاية الأمر لم تكن إلا عملا لصانع ماهر، وليست لفنان مبدع.
لقد أولجت في رحم المخاض مولوداً جديداً، لا عن عقم الأدوات التي لا تنتج فناً، نستطيع أن نتشدق به إن أردنا عوضاً عن الحرفية، لنصعد بها ونرتقي من عالم الصنعة، إلى عالم الإبداع.
في هذا التوقيت بالذات جاءت فنانتنا أدال أبو أنطون، تلك المبدعة لتؤخذ خيط الحرير بإبرتها وتستفزه ليخرج ذاته وينطق ببراعة، واضعة فيه من رحيق إحساسها، وعذوبة أناملها، مالم يسبقها إليه أحد، فتطل علينا بلوحات ناطقة لشخصيات عالمية، وغيرها من اللوحات الطبيعية، بطريقتها غير المسبوقة، رسمت هذه اللوحات بخيط الحرير والإبرة، وكان أشبه ما يكون بلوحات كبار الفنانين، الذين شقوا طريقهم الفني على غرار أسلافهم، بالرسوم الزيتية وهنا يأتي الفارق، ليوضح مدى إتقانها، في اقتفاء نفس الأثر، وإعادة السيرة الأولى للأعمال المبتكرة ذاتها، والتي تنتهي بالمرحلة الإبداعية، من مجمل العمل الفني، القائم على توارد (الظل والنور والكتلة والفراغ والخط) ويعني في هذا كله درجات اللون، وإظهار البعد الثالث، ولكن بدمج خيوطها الملونة لتأتي على هذا كله بصبر السجناء، لا بضربة فرشاة تغير الواقع في لحظات.
إنها في حقيقة الأمر اكتشاف، في حد ذاته، ولا يسعنا إلا أن نكون في هذا الأمر أمناء، بما يتفق ويليق، بإزاحة الستار، عن مبدع جديد، استطاع أن يضع للحرير أبجدية وينتج أحرفاً، ولغة جديدة.
المرأة بسيطة الى حد الاختزال والتجرد، تمتلئ بالثقة في الوقت الذي تنكر فيه ذاتها، لم ينتفض لها جناح، ولا حلقت عجباً مهما تحلقتها وسائل الإعلام، ولم يعمها بريق معارضها في أي مكان والتي كان آخرها في باريس في نيسان (أبريل) الماضي لهذا أردنا أن نشير إلى تواضعها لتعلم الآخرين كيف يكون التواضع رغم النجاح، للذين في هشاشة من الفكر وفقر المحتوى والعبور بهم إلى الآفاق حيث ”روزنامة ” الآخر، أبت على نفسها أن تكون (فقط) مرضعة أو منتجة للحليب وآثرت أن تحلق في فضائها قدماً، عملاقة أرضت غرورنا، ورفعت رؤوس أقرانها، لتقول في النهاية إنها المرأة العربية النموذج الذي يجب أن يحتذى، والذي يرفع رؤوسنا أيضاً نحن الرجال.
Leave a Reply