عندما اخترع “الرفيق” ميخائيل تيموفيفيتش كلاشينكوف البندقية الروسية التي باتت تحمل إسمه منذ العام 1947، لم يكن يتصور أنها ستصبح الأكثر تفضيلا لدى الجنود والثوار والمنشقين واللصوص والمهربين وقطاع الطرق والإرهابيين.. وحتى الأميركيين.
البندقية التي قال عنها صاحبها: “حتى بعد أن ترقد في مستنقع يمكنك أن تلتقطها وتصوبها وتطلق النار.. الجنود الحقيقيون يعرفون هذا ويفهمونه”. هي نفسها البندقية التي لطالما التقطها الجنود الأميركيون من أيدي قتلاهم وجرحاهم وأسراهم في فيتنام والعراق وأفغانستان مفضلين إياها على بنادق الـ”أم-16″.
يقال إن الرفيق كلاشينكوف الذي يبلغ من العمر الآن 86 عاما من النادر ألا يمر يوم دون أن يشاهد على شاشات التلفزة بندقيته، و”بينما يفخر لرؤيتها في أيدي جنود الجيوش النظامية وحركات التحرر، يشعر بالأسى لرؤيتها بين أيدي الأطفال المجندين والمجرمين”. وقد علق في إحدى المرات على ذلك، بحسب ما نقلت صحيفة “التايمز” البريطانية، بالقول: “آسف لرؤية تلك الأعداد من الأبرياء يقتلون ببندقيتي لكنني أهدئ نفسي وأقول إنني اخترعت هذا الرشاش قبل 60 عاما لحماية مصالح بلادي”.
لا أحد يعرف بالضبط كم عدد الناس الذين قتلوا بطلقات الكلاشينكوف على مدى ستة عقود، كما أن عددا قليلا من الناس يعرف أن المخترع العجوز يعمل الآن مزارعا في إحدى القرى النائية شرق روسيا، وأنه يقوم بإنتاج نوع خاص من الفودكا وبالماركة نفسها: “فودكا كلاشينكوف”، فضلا عن أن زجاجات ذلك النوع من الخمر تحمل صورة بندقية كلاشينكوف أيضا.
بالنسبة لي تعرفت على تلك البندقية باكرا. ففي بعض صوري المبكرة حملت تلك البندقية وتصورت بصحبتها في عدة وضعيات. كنا وقتها في الصف الخامس الابتدائي وكنا نخضع لما يدعى “معسكرات الطلائع، ولا أعرف بالضبط الأسباب التي دعتني وزملائي إلى التقاط الصور التذكارية بالبنادق. في المراحل اللاحقة.. تعرفت على تلك البندقية أكثر، في دروس “الفتوة العسكرية” في المرحلتين الإعدادية والثانوية، وفيما بعد في “دروس التدريب العسكري” أيام الجامعة، ثم خلال الخدمة الإلزامية.
خلال المعسكرات والدورات التدريبية المتعددة، كان يوم الرمي بالرصاص الحي، يوما خاصا وممتعا، لا لشيء إلا لأنه سيكون اليوم الأخير.
أتذكر. في أحد الأيام حين كنا نخضع لدورة الطلاب الضباط في المدرسة الجوية في حلب، وبعد أيام ودروس طويلة ومضجرة عن البندقية والرشاشات والـ”آر بي جي” وحتى الطائرات. جاء يوم الرمي بالبندقية. انتظمنا في الصفوف. كل حسب دوره، في حقول متعددة حسب وضعيات الرمي الثلاثة: الرمي وقوفا وجثوا وانبطاحا.
رميت الطلقات المخصصة لي على الدريئات المنتصبة في البعيد. كان يوما حارا ولاهبا. وكان البعض منا يتهرب من التقيد بالنظام ليلوذ ببضعة ظلال ممزقة هنا وهناك. رفيقي “المحارب” الذي يأتي دوره بعدي.. طلب مني أن أقوم بالرمي بدلا عنه. كان متكاسلا وهو يتفيأ قرب الشجيرات البعيدة. وكنت أنا في “الميدان” وقمت فعلا برمي الطلقات المخصصة له..
دائما، أتذكر تلك الحادثة، وأفكر.. بتلك المشاعر الغريبة التي كانت تنتابني، فرغم جميع الأيام التي قضيناها ونحن نتدرب ونتكلم ونقدم الامتحانات حول الحروب والأسلحة والعدو.. كان لدينا اعتقاد راسخ أننا لن ندخل الحرب أبدا.
في حفل تخرج الضباط، قدمنا نحن الضباط المجندين، عرضا رائعا، ببنادق كلاشينكوف مليئة بالأبهة. نعم الجنود الحقيقيون وحدهم يعرفون ذلك الشعور. ولكنها ويا للألم كانت جميعها بمخازن فارغة. كانت البنادق جثثا متألقة. والجنود الحقيقيون وحدهم يعرفون ذلك الألم..
بنادق الكلاشينكوف التي كنا نتدرب عليها ونشعر أننا لن ندخل الحرب بها أبدا، تستخدم الآن بلا هوادة لقتل المتظاهرين هناك.. وأعد الشهداء يوميا، وأفكر لو كان بإمكاني الحصول على “فودكا كلاشينكوف” لأشرب في صحتهم جميعا!..
Leave a Reply