كمال ذبيان – «صدى الوطن»
أنجزت المصالحة بين القطبين الدرزيين، رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط، ورئيس الحزب الديمقراطي اللبناني النائب طلال إرسلان، بعد الحادثة الدموية في قبرشمون، والتي شلّت عمل الحكومة بعد الخلاف على الجهة القضائية التي ستتولى الملف. بذلك، تكون مبادرة الرئيس نبيه برّي قد استكملت بمساراتها الثلاثية (الأمنية والقضائية والسياسية) بعد أربعين يوماً من وقوع الإشكال الأمني الذي كاد أن يهدّد السلم الأهلي، فكانت رعاية رئيس الجمهورية العماد ميشال عون للمصالحة في قصر بعبدا، بحضور الرئيسين برّي وسعد الحريري، بداية للانتقال إلى مرحلة جديدة في لبنان.
الخطر المالي–الاقتصادي
لبنان سينشغل بالوضع المالي–الاقتصادي الذي لامس الخطر، وفق تصنيف المؤسسات المالية الدولية، وبات على حافة الفئة «سي»، وهو أدنى تصنيف يعطي إشارات سلبية عن المأزق المالي والاقتصادي، حيث جاءت النصائح للحكومة اللبنانية، بأن تُقدم على إصلاحات بنيوية في المالية العامة للدولة، كما في تعزيز النمو الاقتصادي، وتخفيض العجز في الموازنة، حيث تسبّب الدين العام الذي قارب المئة مليار دولار إلى وقوع لبنان في العجز الذي وصل إلى حدود 11.9 بالمئة، وهذا الرقم يضعه في مصاف الدول المهددة بالإفلاس كما اليونان ودول أخرى مرّت بما ينوء تحته لبنان من تراكم للدين سنوياً، بسبب الفائدة التي باتت تشكّل خدمتها نسبة 35 بالمئة من الموازنة، وتقدر بنحو 5.5 مليار دولار هذا العام، علماً بأن أصل الدين لا يتجاوز الأربعة أو الخمسة مليارات دولار، تمّت استدانتها للبنى التحتية في العام 1993، لتتراكم الفوائد وتزداد ليصل الدين العام إلى رقم عال جداً قياساً مع موارد لبنان، تُضاف إليه استدانة حوالي 2 مليار دولار سنوياً لدعم الكهرباء التي لم تنفع كل الخطط بإنهاء الأزمة التي تجاوز عمرها الثلاثة عقود. وإضافة إلى خدمة الدين وعجز الكهرباء، ترزح الموازنة تحت أعباء الرواتب والأجور والمعاشات التقاعدية لموظفي القطاع العام بحيث وصلت كلفتها السنوية إلى نحو ثمانية مليارات، وهو مبلغ مرتفع جداً ويستهلك نحو 35 إلى 40 بالمئة من الموازنة.
مؤتمرات
الأزمة المالية–الاقتصادية التي يعيشها لبنان اليوم ليست وليدة عهد الرئيس عون الذي يعلن أنه ورثها من أسلافه في الحكم، وهو يعمل للخروج منها.
كما أن الأزمة الحالية ليست الأولى التي يشهدها اللبنانيون، إذ سبق أن تدخلت دول لمساعدة لبنان للخروج من أزمته بعد منتصف تسعينيات القرن الماضي، فانعقد «مؤتمر أصدقاء لبنان» في واشنطن عام 1997، وبعد ذلك عقدت في باريس أربعة مؤتمرات، منذ أيام الرئيس رفيق الحريري، ووضعت الخطط والمشاريع لإنقاذ لبنان من ضائقته المالية والاقتصادية، لكن الحكومات المتعاقبة لم تلجأ إلى الإصلاح المالي والاقتصادي لمواجهة الأزمة من جذورها، فلم تعمل قط على تخفيض العجز في الموازنة بل فاقمته، فيما كانت ترسم الخطط على قاعدة أن «السلام مع إسرائيل» سيعم المنطقة ولبنان سيستفيد منه، ليتبيّن فشل هذا الرهان، كما فشل رهان آخر للرئيس رفيق الحريري، بتحويل لبنان إلى «جنة ضرائبية»، فتأثّرت مالية الدولة عبر السنوات، وتراجع دخلها، ولم تأتِ المشاريع الاستثمارية إليه، ولم ينهض الاقتصاد بدعم من الصناعة والزراعة، وبقي بنيوياً على ما كان عليه، بلداً يعتمد على الاقتصاد الريعي والخدمات المصرفية والسياحة التي تنتكس مع كل اهتزاز أمني وعدم استقرار سياسي، مما أدّى إلى تفاقم الأزمة التي باتت وجودية، رغم محاولات البعض للتخفيف من حجمها.
النزوح السوري
بعد سلسلة المؤتمرات الاقتصادية التي عقدت على مدى عقدين، انعقد مؤتمر «سيدر» في باريس لمساعدة لبنان اقتصادياً، بعد مؤتمرين عقدا في روما لدعم الجيش، وآخر في بروكسل للبحث في ملف النازحين السوريين الذي يشكّل عبئاً ديمغرافياً ومالياً واقتصادياً وتربوياً واجتماعياً وأمنياً على لبنان الذي يستضيف نحو مليون ونصف مليون نازح سوري بما يوازي عدد ثلث سكانه على الأقل، وقد ألقى هذا النزوح بثقله السياسي والأمني والمالي–الاقتصادي، على كاهل اللبنانيين الذين باتوا في بعض المناطق على صدام مع النازحين السوريين، بسبب التنافس بينهم على العمالة كما على التجارة، دون أن تتقدم الحكومة بخطوات نحو حل هذه الأزمة، لأن رئيس الوزراء وقوى سياسية أخرى في الحكومة، ترفض التحاور مع النظام السوري بعد انخراطهم منذ سنوات في جهود إسقاطه.
الإصلاح المالي
أمام هذه الأزمات التي يرزح تحتها لبنان، لم يعد من مجال للتأخير في بدء إصلاح مالي حقيقي، واعتماد التقشف في صرف الأموال، لتخفيض العجز على مدى خمس سنوات، وفق شروط مؤتمر «سيدر» للحصول على المساعدات والقروض والمشاريع التي وعدت بها الدول المشاركة، وهو ما حفز الحكومة الحالية على إقرار موازنة العام 2019 في منتصف تموز (يوليو) الماضي، مدخلة عليها إصلاحات غير مسبوقة بوقف التوظيف في القطاع العام لنحو ثلاث سنوات، وضبط الهدر ومكافحة الفساد، حيث يقدّر المبلغ الذي يهدر سنوياً، بسبب الصفقات والرشاوى بنحو ملياري دولار، إضافة إلى انتفاخ جسم الموظفين في مؤسسات الدولة، والذين وصلوا إلى نحو 300 ألف، منهم الآلاف الذين يقبضون ولا يعملون، لأنهم من المحاسيب والأزلام لدى قوى سياسية وأحزاب فيما حذّر وزير المال علي حسن خليل من احتمال أن لا تستطيع الدولة دفع رواتب موظفيها.
كذلك شملت الموازنة التركيز في الإصلاح على جباية الضرائب والرسوم، ومنع التهرّب الضريبي، لاسيما الجمارك على البضائع التي تدخل المرافئ والمطار والتي تقدر بأكثر من مليار دولار سنوياً تحرم منها خزينة الدولة بفعل الفساد والتهريب.
الإنقاذ
إزاء التدهور الاقتصادي، ولمواجهة الانهيار المالي للدولة، التي عليها توفير المال لدفع مستحقاتها، كان اللقاء الاقتصادي–المالي في القصر الجمهوري الذي ترأسه الرئيس عون وحضره برّي والحريري والوزراء المعنيون، إضافة إلى حاكم مصرف لبنان، وخبراء ومستشارين ماليين واقتصاديين، إذ تمّ في هذا اللقاء دق ناقوس الخطر، مع تراجع موجودات مصرف لبنان بالعملة الأجنبية لاسيما الدولار، الذي بات يضغط على سعر صرف الليرة اللبنانية، التي بدأت تتراجع أمامه لأسباب عدة، منها القلق على الودائع وهجرة أموال إلى الخارج وتراجع تحويلات المغتربين اللبنانيين التي كانت تقدر بين سبعة وثمانية مليارات دولار سنوياً، بينما تستمر الصادرات اللبنانية بالانحسار، فيما تزداد فاتورة الاستيراد، مما أدّى إلى اختلال كبير بالميزان التجاري، وخوف مبرر من إمكانية تخفيض التصنيف الائتماني للبنان إلى مستويات أدنى.
كل هذه العوامل تجمعت، لتفرض لقاء بعبدا المالي–الاقتصادي، والذي كان سبقه موقف للرئيس برّي يدعو فيه إلى إعلان «حالة طوارئ اقتصادية»، وهو ما استدعى الإسراع في عقد مصالحة جنبلاط–إرسلان، لتعود الحكومة إلى العمل، وعلى رأس أولوياتها إنقاذ الوضع المالي والاقتصادي، بالاعتماد على وعود مؤتمر «سيدر» باستثمار نحو ثلاثة إلى خمسة مليارات دولار بمشاريع إنمائية وبنى تحتية، لتحريك عجلة الاقتصاد وزيادة النمو.
اتفق أركان الحكم في لقاء بعبدا على وضع «الاقتصاد أولاً»، عبر الحفاظ على الاستقرار الأمني وخفض التوتر السياسي، والبدء بتنفيذ «خطة ماكينزي» للإصلاح المالي–الاقتصادي، إضافة إلى استعجال إقرار موازنة 2020 وإصدار قوانين جديدة لمحاربة الفساد والتهرب الضريبي والجمركي، إلى جانب إعادة هيكلة إدارات الدولة ووظائفها.
إنه «الاقتصاد أولاً» كي لا يصبح لبنان أخيراً.
Leave a Reply