ما أشبه اليوم بعشية الحرب الأهلية عام 1975
كمال ذبيان – «صدى الوطن»
مع دخول الأزمة في لبنان شهرها الثاني، دون ظهور أية حلول في الأفق، تتعاظم مخاوف اللبنانيين الذين عانوا من أزمات وحروب متلاحقة، من اندلاع حرب أهلية جديدة نظراً لتشابه الظروف الراهنة بتلك التي سبقت الحرب الأهلية في سبعينيات القرن الماضي، حين تعالت المطالب الشعبية المتعلقة بالفقر والبطالة والضمان الصحي، وتداخلت معها قضية السلاح الفلسطيني، والصراع العربي–الإسرائيلي وما رافقه من توازنات إقليمية ودولية في إطار الحرب الباردة التي كانت في أوجها بين السوفيات والأميركيين آنذاك.
المشهد يتكرّر
من جايل حقبة ما قبل الحرب الأهلية اللبنانية عام 1975، يتذكر جيداً التظاهرات والاعتصامات الاحتجاجية على الوضع المعيشي والاقتصادي عشية اندلاع شرارة الحرب التي دامت نحو 15 عاماً، من تحرك عمال غندور وتظاهرات مزارعي التبغ إلى صيادي الأسماك وطلاب الجامعة اللبنانية مروراً بنقابات المعلمين والمهن الحرة…
المشهد الداخلي نفسه يحضر أمام اللبنانيين اليوم، وكذلك المشهد الإقليمي والدولي، وسط مخاوف متزايدة من أن تنقلب التظاهرات والاعتصامات السلمية، إلى العنف فيتم تحييد الشعارات المطلبية التي يقرّ بأحقيتها أهل السلطة، لتحل مكانها شعارات تستهدف سلاح المقاومة بصراحة كما حصل مع السلاح الفلسطيني في سبعينيات القرن الماضي.
فلبنان مرتبط منذ استقلاله عام 1943 بمشاريع خارجية، وقد تحوّل أكثر من مرة إلى ساحة صراع مباشر نتيجة ارتهان القوى السياسية فيه لمحاور خارجية، ليدفع اللبنانيون في كل مرة ثمن لعبة الأمم غالياً.
ولا يخفى على أحد أن الأميركي والإسرائيلي وحلفائهما في المنطقة العربية يريدان نزع سلاح «حزب الله» الذي نجح على مدى العقود الثلاثة الماضية في فرض توازنات عسكرية غير مسبوقة بوجه آلة الاحتلال الإسرائيلي التي فشلت مراراً في تدمير المقاومة التي حرّرت الأرض اللبنانية المحتلة وفرضت على تل أبيب توازناً في الرعب جعل من قرار شن أي عدوان على لبنان تحدياً دونه أثمان باهظة على قادة الكيان الصهيوني.
ومع فشل التعامل العسكري مع سلاح المقاومة الذي بات له وزن إقليمي لا يمكن تجاهله، تتعاظم مخاوف اللبنانيين من أن يتم استخدام سلاح المال والاقتصاد لحرف الغضب الموجه ضد الفساد وهدر المال العام والفقر والبطالة، نحو سلاح المقاومة بتحميله مسؤولية وضع البلد وأزمته الاقتصادية المتفاقمة.
فلائحة الاتهامات ضد «حزب الله» حاضرة ولا تحتاج سوى للتوقيت المناسب حتى تطغى على مطالب الشارع الذي رفع شعار «كلن يعني كلن» الكفيل باتهام أية جهة سياسية بالفساد عندما تقتضي الضرورة.
تلك اللائحة تشمل اتهامه باستخدام معابر غير شرعية للتهريب، والتهرب الضريبي، والتغاضي عن فساد الحلفاء، ناهيك عن اتهامه بأنه «دويلة ضمن الدولة»، عدا عن مقولة أنه لا يمكن للدولة أن تقوم بينما هنالك سلاح خارج سيطرة الدولة.
التصويب على «حزب الله»، يصب حتماً في خدمة أهداف خارجية تسعى إلى حرف «الحراك الشعبي» بواسطة قوى سياسية وحزبية داخلية إضافة إلى منظمات غير حكومية ناشطة على الساحة اللبنانية منذ سنوات طويلة.
فهؤلاء سيكونون كفيلين بتحميل «حزب الله» مسؤولية الأوضاع المتفاقمة لعدم تسهيل ولادة حكومة «تكنوقراط» من أجل حماية سلاح المقاومة ومصالح المحور الإيراني فيما يشتد الخناق الاقتصادي والمالي على البلاد والعباد للرضوخ إلى المحور الأميركي–الإسرائيلي–السعودي.
وقد بدأت تتجلى بعض الأهداف السياسية، التي تريد إغراق «حزب الله» في المستنقع اللبناني وجرّه إلى صدام داخلي، في تكرار لمشهد السبعينيات عندما زجّ بالسلاح الفلسطيني في الصراع الداخلي بعد ربطه بالأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي عانى منها لبنان عشية اشتعال الحرب الأهلية. بل إن التصويب على سلاح «حزب الله» بدأ فعلاً في الساحات التي حركتها «القوات اللبنانية» في جل الديب والذوق وغزير وجبيل وصولاً إلى شكا، بالمطالبة بحكومة لا تؤيد في بيانها الوزاري سلاح المقاومة، وهو ما ألمح إليه رئيس «الحزب التقدمي الاشتراكي» وليد جنبلاط، بقوله إن لبنان لا يمكن أن يبقى «هانوي» وعليه أن يصبح «هونغ كونغ».
شروط الحريري
بات واضحاً أن استقالة سعد الحريري من رئاسة الحكومة دون التنسيق مع بقية أركان السلطة، تهدف إلى عودته بشروط جديدة متحررة من «التسوية الرئاسية» التي ماتت، فيشكل حكومة لا يكون «للتيار الوطني الحر» اليد العليا فيها، والأهم ألا تضم رئيس التيار البرتقالي الوزير المشاكس جبران باسيل، بذريعة أنه «استفزازي» للمتظاهرين.
ورغم أن الدستور ينص بوضوح على أن صلاحيات مجلس الوزراء تشمل «وضع السياسة العامة للدولة في جميع المجالات» يصر الحريري على مطلب قادة الحراك الخفيّين، بتشكيل حكومة «تكنوقراط» –لا تضم سياسيين. وهو مطلب يرى فيه المراقبون التفافاً واضحاً على إرادة الناخبين التي تجلت في انتخابات 2018 بفوز «حزب الله» وحلفائه بأغلبية المقاعد في مجلس النواب، مما يجعلهم عملياً قادرين على تشكيل حكومة من لون واحد، لكنها إن تشكلت فعلاً، فإنها قد تواجه فشلاً ذريعاً في مساعيها لإنقاذ البلاد من انهيار مالي واقتصادي وشيك، فتكون بذلك لقمة سائغة للإطاحة بها سواء عبر الشارع أو عبر الانتخابات التشريعية التالية كحد أقصى.
لذلك يتمسك «حزب الله» بتكليف الحريري، لكن الأخير لا يمكنه في النهاية سوى الاستجابة لشروط أميركية–سعودية صريحة، بعدم تمثيل «حزب الله» في الحكومة المقبلة، وهو الذي تم تصنيفه كـ«تنظيم إرهابي» بجناحيه السياسي والعسكري، وبالتالي لا يمكن أن يكون ممثلاً في حكومة لها علاقات طيبة بدول الغرب والخليج.
لقد جرى استغلال «الحراك الشعبي»، لتنفيذ هذا المطلب الذي استجابت له فوراً «القوات اللبنانية» باستقالة وزرائها، فيما تريّث جنبلاط في استقالة وزرائه إلى أن قدم الحريري استقالته في خطاب شبيه بما أدلى به قبل سنة تقريباً حين تم احتجازه في الرياض، وإن كان برر قراره هذه المرة بالاستجابة لمطلب المتظاهرين الذين اعتبروه أحد رموز السلطة الفاسدة.
الحريري الذي لمس مدى الحاجة إليه في استمرار «التسوية الرئاسية» و«ربط النزاع» مع «حزب الله»، اللذين أديا إلى استقرار أمني وسياسي في لبنان خلال السنوات القليلة الماضية بينما كان الجوار يحترق بنيران «الربيع العربي»، يتمسك بشروط لا تبدو بريئة فهو يريد صلاحيات استثنائية وحكومة «تكنوقراط» من دون سياسيين، كي يستطيع العمل دون ضغوط القوى السياسية التي برأيه تكبّل الحكومة، كما يريد أن يعتمد حصراً على «أصحاب الاختصاص» لإنقاذ الوضع المالي والاقتصادي وتحقيق الإصلاحات، بينما يتفرغ هو شخصياً للاتصالات الدولية لتوظيف «علاقاته» العربية والدولية من أجل تأمين القروض والمساعدات للبنان، ومنها تنفيذ مقررات مؤتمر «سيدر».
أما من جهة أخرى، تبقى التساؤلات معلقة حول مصير ملف النازحين السوريين وتطبيع العلاقات مع دمشق، وغيرهما من الملفات السياسية الشائكة التي لا يمكن معالجتها من قبل حكومة غير سياسية.
الغدر بالصفدي
الشروط التي وضعها الحريري متلطياً خلف مطالب الشارع الذي خرج إليه مناصرون ومحازبون له للمطالبة بعودته إلى رئاسة الحكومة، رافضين أن يدفع الثمن وحيداً، لم تلق تجاوباً من بقية أركان السلطة، فوافق الحريري أن يسمي بديلاً عنه، فاقترح الرئيس تمام سلام الذي اعتذر، وسمى الوزير السابق محمد الصفدي وأبلغ كل من الوزير باسيل والخليلين علي وحسين باسمه، وهو ما شجع الرئيس عون، على القول إنه سيدعو لاستشارات نيابية، وهو الذي كان يميل إلى الصفدي منذ سنوات، لكن الحريري تراجع سريعاً رافضاً المشاركة في حكومة «تكنوسياسية» بينما ترك ورقة الصفدي تحرق في الشارع فور خروج اسمه إلى العلن.
وعاد الحريري إلى طرح تشكيل حكومة «تكنوقراط» مقدماً تسعة أسماء لرئاستها، لكن الرفض ظل قائماً من قبل رئيس الجمهورية وتياره السياسي إضافة إلى «الثنائي الشيعي»، لأن مثل هذه الحكومة لا تخدم سياسياً إلا الأهداف الأميركية في إطار صراع المحاور الملتهب في ساحات إيران والعراق ولبنان، لمواجهة «النفوذ الإيراني» كما أعلن وزير الخارجية الأميركية مايك بومبيو.
فعلى وقع صراع المحاور وغياب أي توافق سياسي حول شكل الحكومة القادمة في لبنان، كان تراجع الحريري عن تسمية الصفدي متوقعاً، وإن اتّهمه الأخير بالغدر بعد أن وعده رئيس الحكومة المستقيل بتأمين الغطاء السّنّي لتكليفه، لكنه لم يفعل. ويبدو أن أية شخصية سنية أخرى ستواجه المصير نفسه في حال لم تتم الاستجابة لشروط الحريري، أو بالأحرى الشروط المفروضة عليه من الخارج.
الأزمة مفتوحة
في ظل انسداد الأفق السياسي لا يبدو أن اللبنانيين قادرون فعلياً على اجتراح الحل لأزمتهم المتفاقمة، لأن المشاكل التي تواجهها البلاد متجذرة عميقاً في ظل الدستور (اتفاق الطائف) الذي يرعى نظاماً سياسياً قائماً على الطائفية مما يجعل من مكافحة الفساد ضرباً من الخيال في ظل استشراء المحاصصة وغياب الرقابة والمحاسبة.
وبينما ينشغل أطراف السلطة في خلاف حول شكل الحكومة، يردد الشارع مطالباً تبدو أنها غير قابلة للتحقيق على أرض الواقع، ومنها مطالبة أهل السلطة بالرحيل على الرغم من شرعيتهم التي رسختها الانتخابات نيابية قبل عام ونصف العام. وإذا أراد المتظاهرون فعلاً إزاحة السلطة الحالية بكل مكوناتها فعليهم الانتظار حتى الاستحقاق الانتخابي المقبل، أو أن يركزوا مطالبهم على إجراء انتخابات نيابية مبكرة بحسب قانون الانتخابات الأخيرة لتعذر صياغة قانون جديد. وقد بدأت ملامح هذا التوجه تظهر مع استمرار تعطيل عمل المؤسسات ومنها مجلس النواب الذي يبدو عاجزاً عن الانعقاد تحت ضغط الشارع.
Leave a Reply