كمال ذبيان – «صدى الوطن»
كان المسؤولون اللبنانيون، قبل سنوات، يتبجّحون بركيزتين تميّز بهما لبنان على مدى العقود الثلاثة الماضية: الاستقرار النقدي والأمني، وأن الحرائق التي اشتعلت في عدد من الدول العربية، لن تصل إليه، لأن الجيش خاض معارك في مواجهة «الجماعات الإرهابية»، منذ منتصف تسعينيات القرن الماضي، وفي أكثر من منطقة، وتحديداً في جرود الضنية ومخيّم نهر البارد وشرق صيدا وصولاً إلى عرسال. أما حاكم مصرف لبنان فكان يبشّر اللبنانيين دائماً باستقرار سعر صرف الليرة، وأنها «بألف خير»، مستشهداً بمرور لبنان في حروب وأزمات لم تزحزح صمود النقد الوطني فظل سعر صرف الدولار ثابتاً عند حوالي 1500 ليرة فلم تهزه الاعتداءات الإسرائيلية ولا اغتيال الرئيس رفيق الحريري ولا ما سمي بـ«الربيع العربي» والأزمة السورية، غير أن هذا الاستقرار النقدي أصبح اليوم شيئاً من الماضي مع تراكم الديون وفوائدها العالية، إضافة إلى الفساد والهدر الذي أنهك خزينة الدولة ووضعها على شفير الإفلاس.
تدهور الليرة
الحديث عن الاستقرار النقدي في لبنان لم يمر دون تشكيك خلال العقود الماضية، حيث لجأت حكومة الحريري عام 1997، إلى طلب الدعم الدولي فانعقد أول مؤتمر لمساعدة لبنان في واشنطن، تحت اسم «أصدقاء لبنان»، بعدما بدأت بوادر الانهيار تظهر بسبب السياسة المالية التي اتّبعها الرئيس رفيق الحريري مع حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، بتثبيت سعر صرف الليرة، من خلال إعطاء فوائد عالية على الودائع، ومنها سندات الخزينة، فوصلت الفوائد إلى مستوى قياسي عند 42.5 بالمئة على سندات خزينة، مما أثار خبراء المال والاقتصاد وبعض السياسيين، الذين حذروا من الذهاب إلى كارثة حتمية.
لكن الحريري الأب، لم يكن يستسيغ مثل هذا الكلام، وكان يسخر منه، ويردّد كلمته المشهورة «البلد ماشي ولا يهمك»، ولكن البلد مشى نحو الهاوية، دون أن يأتي مَن يصحّح المسار، باستثناء المحاولة اليتيمة في أول عهد الرئيس الأسبق إميل لحود، عندما ترأس الحكومة سليم الحص وتولى جورج قرم وزارة المال فسعى إلى تحرير سعر صرف الليرة لبناء اقتصاد منتج، من خلال تخفيض الفوائد لإخراج الودائع من المصارف واستثمارها في قطاعات منتجة مثل الزراعة والصناعة، لكن المحاولة تلك سرعان ما سقطت بخسارة الحص في انتخابات العام 2000 وعودة الحريري إلى الحكم.
ومع مرور السنوات تبين للبنانيين شيئاً فشيئاً أن ما أشيع عن أن الليرة بألف خير، لم يكن سوى نفاقاً وتضليلاً، ليكتشفوا بحلول العام 2019 أن الدين العام تجاوز 85 مليار دولار، وأن خدمته تناهز 5.5 مليار دولار سنوياً وأنها إلى ارتفاع. أما المصارف التي كانت الدولة تستدين منها بفوائد عالية لتثبيت سعر الليرة، فلم يعد بإمكانها استنزاف أموال المودعين لإقراض الخزينة، بعد أن اكتشفت جمعية المصارف أن الحكومة باتت عاجزة عن سداد الديون أو الفوائد. وقد تبين أيضاً أنها بدأت منذ العام 2017 بتهريب أموالها إلى الخارج، كما فعل سياسيون ونافذون في السلطة، فتمّ تهريب ما يقدر بنحو 30 مليار دولار، وانكشف المستور.
التحرّك في الشارع
شحّ السيولة سرعان ما أثار هواجس المواطنين، بينما كانت دول «صديقة»، على رأسها فرنسا، تطالب بتشكيل حكومة إصلاحية لمعالجة العجز المتفاقم، وهذا ما خلص إليه مؤتمر «سيدر» الباريسي، الذي رصد حوالي 12 مليار دولار للنهوض بالاقتصاد اللبناني بشرط إجراء إصلاحات جذرية.
إثر ذلك، وضعت حكومة سعد الحريري ورقة إصلاحية، تستجيب لمطالب صندوق النقد الدولي بتحرير سعر صرف الليرة، ووقف رعاية الدولة للشؤون الاجتماعية والصحية، وفرض رسوم وضرائب إضافية، من ضمنها رفع ضريبة القيمة المضافة إلى 18 أو 20 بالمئة. وقد أبلغ الحريري اللبنانيين، بأن عليهم انتظار قرارات موجعة، ستغيّر من نمط حياتهم، فكان قرار فرض رسم على استخدام تطبيق «الواتساب» بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير، فاندفع المواطنون إلى الشارع مندّدين بالقرار، وتوسّع الاحتجاجات في 17 تشرين الأول 2019، لتأخذ طابع انتفاضة شعبية رفعت مطالب سياسية واقتصادية متنوعة، دون أن تنجح في إنتاج برنامج وقيادة موحّدَين، فانتهت إلى الفشل ومزيد من الإحباط للشعب اللبناني.
سلمية الحراك
الحراك الشعبي الذي بدأ عفوياً وسلمياً، وشارك فيه طلاب جامعات وفئات فقيرة ومتوسطة الدخل، إضافة إلى نقابات، نجح في شيء واحد على الأقل وهو خلخلة أركان السلطة والطبقة السياسية التي انزوى نجومها خوفاً من غضب الشارع، بعد أن رفع المنتفضون شعار «كلن يعني كلن» غير مستثنين أي مسؤول أو جهة حزبية، فارتبكت الحكومة واستقال سعد الحريري.
ولا شك أن بعض من في السلطة أو مَن أخرج منها، حاول استغلال الحراك الشعبي وركوب موجته، كما فعل حزبا «القوات اللبنانية» و«الكتائب» اللذين دعما التظاهرات دون رفع الشعارات الحزبية، وفعل ذلك أيضاً «تيار المستقبل»، ودخل على الخط بهاء الحريري رافعاً شعار حماية إرث أبيه السياسي الذي ذهب لشقيقه سعد، بقرار سعودي، فقرّر أن يشارك في الحراك متعاوناً مع «المنتديات» التي ظهرت في طرابلس والشمال بإدارة نبيل الحلبي، ونسّق مع اللواء أشرف ريفي واستقطب مسؤولين وعناصر كثراً من «تيار المستقبل»، بعد أن جفّ المال عنهم وأقفلت مؤسسات تابعة للتيار الأزرق لاسيما منها الإعلامية والصحية والتربوية.
دور الجيش
في ظل الغضب الشعبي والاحتجاجات على ما وصل إليه لبنان، من تدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، وعدم تمكّن المودعين من سحب ودائعهم، وانخفاض القدرة الشرائية لدى المواطنين، كان الجيش يؤيّد المطالب الشعبية، لكنه في الوقت نفسه كان يعمل على حفظ الاستقرار والأمن عبر منع قطع الطرقات وتسهيل تنقل المواطنين، فكان يتدخل إلى جانب قوى الأمن الداخلي للحفاظ على سلمية الحراك، لكنه كان في الوقت نفسه يتدخل عند أي اعتداء على المؤسسات والأملاك العامة والخاصة، دون اللجوء إلى استخدام العنف والقوة ضد المتظاهرين إلا عند تعرض العناصر العسكرية والأمنية للاعتداء.
نجح قائد الجيش العماد جوزف عون، في أن يمنع انزلاق البلاد نحو الاقتتال، وسط انقسام اللبنانيين حول الحراك وأهدافه، لاسيما بعد رفع شعارات سياسية تناولت سلاح المقاومة وطالبت بنزعه، إضافة إلى قطع طرقات تعتبرها المقاومة حيوية لها، مثل طريق الجنوب–بيروت.
وتمكن الجيش من الفصل بين الأطراف السياسية والحزبية، ومنع أي احتكاك بينهم وبين المحتجين الذين كانوا بأغلبهم يدعمون الجيش ويعرفون أن أوجاعه من أوجاعهم. فوقف الجيش على مسافة واحدة من الجميع، منفذاً قرارات السلطة السياسية بمنع قطع الطرقات لوقت طويل، مجدداً ثقة المواطنين به، وهم الذين توحدوا حول المؤسسة العسكرية التي كان دورها –تاريخياً– محل خلاف. إذ مع بدء الحرب الأهلية عام 1975، انقسم اللبنانيون حول دور الجيش، فطالب فريق منهم باستخدامه ضد القوى الوطنية التي دعمت المقاومة الفلسطينية، فيما طالب فريق آخر بتحييد الجيش عن الأزمات الداخلية كي لا يتم تحويله إلى طرف فيها، فأدّت الخلافات في نهاية المطاف إلى انقسام والتحاق جزء كبير من ضباطه وأفراده بطوائفهم وأحزابهم.
رسائل أمنية
وفي ظل الأزمة السياسية والمالية والاقتصادية والاجتماعية المتفاقمة التي يعيشها لبنان مع ارتفاع سعر الدولار إلى نحو 11 ألف ليرة وتبخر الوظائف وانخفاض التمويل لمختلف المؤسسات، بما في ذلك، الجيش والقوى الأمنية، حيث خسر الموظفون في القطاعين العام والخاص نحو 90 بالمئة من رواتبهم، و675 بالمئة من القدرة الشرائية،
، اجتمع قائد الجيش العماد جوزف عون مع كبار الضباط في المؤسسة العسكرية التي تريدها السلطة السياسية أداة لقمع المنتفضين، معلناً بوضوح موقفه الرافض لأن يكون الجيش في صف السلطة التي حملها مسؤولية ما وصلت إليه البلاد.
وقد قال وزير الداخلية في حكومة تصريف الأعمال إن قوات الأمن في لبنان «تُستنزف» وغير قادرة على الوفاء بواجباتها مع اشتداد وطأة الانهيار المالي والجمود السياسي.
وفي مقابلة مع وسيلة إعلام محلية، ألقى الوزير محمد فهمي باللوم على الأحزاب السياسية التي لم تستطع الاتفاق على خطة إنقاذ وطنية مشيراً إلى أن القوى الأمنية لم يعد بمقدورها تنفيذ 90 بالمئة من مهامها لحماية الوطن والمواطنين. وقال فهمي «الحلّ يبدأ من تشكيل حكومة إنقاذ لما تبقّى من هذا الوطن».
وتأتي تصريحات فهمي بعد يومين من توبيخ قائد الجيش اللبناني العماد جوزيف عون للساسة قائلاً إن الجنود «يجوعون مثل الشعب».
بل قالها عون صراحة إنه لا يمكن للجيش أن يتعاطى مع الحراك اليوم، كما في بداياته، بل سيترك للمحتجين الغاضبين حرية التعبير عن غضبهم، بشرط عدم الإضرار بالاستقرار أو الذهاب نحو أهداف أخرى غير المطالب المعيشية.
بذلك، يؤكد الجيش أنه قرر الوقوف إلى جانب الشعب الذي هو منه، وأنه لن يسمح للقوى السياسية أن تستخدمه لصالح أهدافها الفئوية. أما الجنرال جوزف عون فينفي طرح نفسه كمرشح في معركة رئاسة الجمهورية القادمة، بل يؤكد على أن الجيش سيبقى بعيداً عن السياسة لأنه إذا فرط فسيتهدد الكيان من أساسه.
Leave a Reply