كان الظن أن أسامة بن لادن مطلوب حيا أو ميتا ليس فقط للولايات المتحدة، بل لما يربو على ثلاثين دولة في مختلف أنحاء المعمورة. تبين أن بن لادن مطلوب ميتا! لكن لم تخبرنا الادارة الأميركية بهذا التغيير “الثوري” في تعاطيها مع ملف أخطر رجل في العالم منذ انتحار أدولف هتلر داخل اسوار برلين المحطمة قبل نحو 66 عاما.
المفاجأة لم تقتصر على التغير الاستراتيجي في التعامل مع ملف هذا الرجل الذي أرهق العالم بثقله وتداعياته على مستوى الأمن والسلم الدوليين وكان منها سقوط أنظمة وتحطيم دول فضلا عن سقوط مئات ألوف الضحايا وتشريد الملايين في حقبة “الحرب على الارهاب” التي عاش على وقعها العالم من شرقه الى غربه خلال العقد الماضي من السنوات.
فزعيم تنظيم “القاعدة” أحيط بهالة من العظمة والخطورة بحيث لم يكن ممكنا تصور مقتله في مجمع سكني هادئ وفي منطقة تعج بحركة المخابرات في تلك المدينة الباكستانية الجبلية الوادعة والمأهولة بطبقة من أثرياء العسكريين والمدنيين الباكستانيين.
علمنا إذن، أن الرجل الأخطر في العالم قد استسلم لحياة التقاعد عن “الجهاد” ولم يكن يقتني حتى سلاحا فرديا يدافع به عن نفسه، وهذا ما يعزز الشكوك بأنه كان مطمئنا الى “حماية” ما توفرها له جهة أمنية قبل انكشاف أمره و”أمرها” ووضع خاتمة لهذا الفصل الأخير من مسلسل بن لادن الأسطورة على أيدي مجموعة صغيرة من كوماندوس البحرية الأميركية الذين هبطوا من السماء ونفذوا مهمة قتل الرجل الذي دوخ العالم وأزهق آلاف الأرواح في العمليات الارهابية التي أعلن بالصوت والصورة مسؤوليته عنها مرارا وتكرارا، وأبرزها الهجوم الارهابي الأخطر على أميركا منذ الهجوم الياباني على بيرل هاربر قبل أن تضع الحرب الكونية الثانية أوزارها.
والإعلان الأميركي عن نهاية بن لادن جاء مطبوعا بهوليودية فاقعة وحمل من المتناقضات ما حول العملية برمتها الى لغز سرعان ما بدأت عناصره تتكشف على “جرعات” حرصت الإدارة الأميركية على حقنها في وسائل الإعلام.
أطرف ما ورد في الرواية الأميركية بداية، أن القوة المهاجمة لقيت “مقاومة” من بن لادن قبل أن تضع رصاصة في الرأس حدا لها. لتعود الإدارة على لسان أحد الناطقين باسمها وتقول أنها كانت “مقاومة” من زوجته اليمنية على الأرجح، حيث حاولت تشكيل “درع بشري” لحمايته!
قالوا بداية إنها قتلت، ثم تبين أنها أصيبت في ساقها. ثم أخبرنا أن بن لادن لم يكن يحمل حتى سلاحا فرديا وحيث تورد بعض التحليلات أن بن لادن أسر حيا قبل أن يقتل في غرفته ويتم الاعلان أن جثته باتت في قبضة أميركا.
لست من المؤمنين بنظرية المؤامرة، لكن “المؤامرة” الوحيدة التي يمكن الحديث عنها هنا تتمثل بتزوير مجريات تنفيذ عملية إعدام بن لادن وما يعزز الشبهات حول هذه العملية هو الاعلان عن دفن جثته في بحر العرب “وفق الشريعة الاسلامية”!
في التفاصيل أن ضابطا أميركيا “صلى عليه” بعدما جرى غسل الجثمان وتكفينه. لسنا ندري مدى إتقان هذا الضابط الأميركي لمراسم الصلاة على الجنازة (بالانكليزية) والتي قام بترجمتها الى العربية أحد المترجمين. هل قال المصلي على الجنازة، مثلا “اللهم لا نعلم عنه إلا خيرا” و”أنت أعلم به منا”. وفي هذه الحال تكون الصلاة في جزء منها على الأقل، ضحك على الله، لأن الأميركيين ومعظم العالم لا يعتبرون ما قام به بن لادن في 11 أيلول وفي أزمنة وأمكنة أخرى كان “خيرا”. فهذا الرجل قتل من المسلمين والعرب أكثر مما قتل من أعدائه “الصليبيين” كما كان يزعم.
ثم لماذا الاستعجال في دفن الجثة في بحر العرب قبالة الشواطئ الباكستانية، وهل فعلا تحترم الادارة الأميركية مبدأ “خيار الميت دفنه” الإسلامي، فسارعت الى دفن الجثة في البحر بعدما استنتجت (لا ندري كيف؟) أن لا سلطة على الأرض تقبل باستقبال الجثمان. أم أن عملية الدفن كانت لـ”أسرار” لا تريد الإدارة الأميركية لها أن تفتضح. واين شريط الفيدو الذي يصور مراسم الدفن من على حاملة الطائرات “كارل فنسن” الذي وعدت الادارة بعرضه. ولماذا قررت الادارة لاحقا أنها لن تعرض صورا لجثة بن لادن مثلما فعلت مع عدي وقصي نجلي صدام حسين بعدما قتلتهما في الموصل في العام 2003 في عملية تحمل الكثير من أوجه الشبه مع عملية قتل بن لادن في ابات آباد الباكستانية، مع اختلاف وحيد هو أن عدي وقصي لم تكن أيديهما ملطخة بالدم الأميركي على الأقل.
الثابت الوحيد حتى الآن هو أن أسامة بن لادن قد قتل، رغم أن كثيرين من المشككين سيطالبون الادارة بعرض الدليل، وهي لن تأبه بذلك على الأرجح، كما توحي مواقف أركانها. والرئيس باراك أوباما من نوع الرؤساء الذين لا تهزهم الشكوك ويمارسون فضيلة الصبر قبل أن يقرروا الدفاع عن مواقفهم أو سياساتهم.
فمنذ انتخابه كأول رئيس ملون لأميركا انطلقت شائعة تزعم أن أوباما لم يولد على الأرض الأميركية وبرز متطرفون من اليمين الأميركي طارحين عليه تحدي اثبات ولادته الأميركية، وهو لم يأبه بل قيل أنه دعا مراسلي وسائل الاعلام الى البيت الأبيض قبل أسابيع قليلة وعرض أمامهم فيلما كرتونيا عن ولادته يحاكي الفيلم الكرتوني الشهير “الملك الأسد” (ليون كينغ) وقد ضحك أوباما مع المراسلين وأضحكهم وهو يعرض عليهم سيرة مولده ونشأته في “غابات افريقيا” في مسرحية أراد لها أوباما أن تكون ردا على مسرحية المشككين بمولده، وبالتالي بشرعية رئاسته، قبل أن يعود ويقرر الحصول على نسخة مصدقة من احدى مستشفيات هونولولو في ولاية هاواي واضعا حدا لكل الترهات عن مكان ولادته.
فهل يقدم الرئيس أوباما على عرض الدليل على موت بن لادن مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية لتفويت الفرصة على عتاة الجمهوريين الذين سيحاولون محو صورة الانجاز الرئاسي الأوبامي من أذهان الأميركيين، من الآن وحتى تشرين الثاني (نوفمبر) 20١2، وهل الاحتفاظ بتلك الصور على علاقة بالمعركة الرئاسية لاستخدامها كاحدى أدوات هذه المعركة أمام جمهور الناخبين.
ربما وجب التذكير بأن أوباما لا يمكنه الاضطلاع بدور “ملائكي” على حلبة تملؤها شياطين السياسة، واللعب بورقة جثة بن لادن ربما كان من عدة المواجهة التي يتهيأ لها الرئيس الأميركي ولو على حساب افتضاح جهل ادارته بأصول الدفن “على الطريقة الاسلامية”.
ذات يوم من خريف 2012 وبعد أن تكون الجيوش الأميركية قد عادت من أفغانستان قد يقف باراك أوباما وتسيل من جيبه صورة لجثة بن لادن ويعلن “لقد أنجزت المهمة”.
سيبدو هذا الاعلان أكثر صدقية من اعلان جورج دبليو بوش بعد هبوطه على متن احدى حاملات الطائرات ليعلن عن “انجاز المهمة” في العراق ذات يوم من أيار ٢٠٠٣، ليتبين أن أميركا كانت فقط على مشارف الغوص في “فيتنام أخرى” وليدفع حزبه الجمهوري أثمانا سياسية غالية بعدما دفعت أميركا من دماء أبنائها أثمانا أغلى في حرب جلب الديموقراطية الى العراق، تحت مظلة “غزوة 11 ايلول” التي بات باراك أوباما يحتفظ بصورة لجثة بطلها
Leave a Reply