قرار مقاطعة وين بإطلاق اسم ناشر صحيفة «صدى الوطن»، أسامة السبلاني، على جزء من طريق وورن أفينو بين شارعي شايفر وتشايس بقلب مدينة ديربورن ليس مجرد تكريم عابر أو التفاتة رمزية، بل هو حدث يستحق التوقف عنده مليّاً لما يحمله من دلالات تتجاوز الشخص إلى ما يمثله من تاريخ وذاكرة وهوية للمجتمع العربي الأميركي في منطقة ديترويت.
فما معنى أن يُضاف اسم أسامة السبلاني إلى خارطة مدينة مميزة مثل ديربورن التي تخلّد شوارعها على غرار المدن الأميركية الأخرى، العديد من القادة والصروح والشخصيات المحلية الراسخة مثل هنري فورد وجوزيف وورن وصامويل تشايس وجون شايفر؟ إنها –بلا شك– لحظة تعكس اكتمال دائرة الحضور العربي الأميركي في المشهد العام للمدينة التي أصبحت بلا منازع عاصمة العرب الأميركيين في الولايات المتحدة: من الهجرة والعمل الشاق في مصانع السيارات، إلى تأسيس المحلات التجارية الصغيرة، ثم الانخراط في ميادين الخدمة العامة، وصولاً إلى تثبيت اسم أحد رموز الجالية على الشارع الحيوي الذي حوله المهاجرون العرب من شارع شبه مهجور في سبعينيات وثمانينيات القرن المنصرم إلى كوريدور تجاري مزدهر.
هذه النقلة ليست تفصيلاً عادياً، بل هي إعلان واعتراف بأن المجتمع العربي الأميركي لم يعد على الهامش كما كان حين تأسست «صدى الوطن» قبل أكثر من أربعة عقود، وإنما أصبح في قلب التاريخ والجغرافيا الأميركية، على حد سواء. كما أنه إعلان واعتراف بأن الصحيفة الرائدة كانت قائدة وموثّقة لهذا التغيير الذي بدّل وجه ديربورن!
إن إطلاق اسم أسامة السبلاني على شارع وورن يجسّد رحلة المهاجر العربي الأميركي من الهامش إلى قلب الحراك الاقتصادي والسياسي، وإلى ذاكرة ديربورن وهويتها المعاصرة، بما يعكس الازدهار الثقافي للمجتمع العربي في المدينة، وكذلك في مقاطعة وين التي تبنّت هذه المبادرة المتعددة الدلالات.
التكريم يعني أن العرب الأميركيين لم يعودوا مجرد عمال على خطوط الإنتاج، ولا مجرد تجار على أرصفة الشوارع، ولا أصحاب محطات وقود، بل صنّاع رأي ومشاركون أساسيون في تشكيل الوعي العام، وأسامة السبلاني هنا يمثل هذا التحول بامتياز: إعلامي وسياسي جعل من الصحافة منبراً للدفاع عن المظلومين، ومرآة تعكس قضايا العرب الأميركيين بكل ما فيها من تحديات وإنجازات في بلد تسيطر فيه الشبكات العملاقة على الخطاب الإعلامي المعروف بتوجهاته المريبة وتحيزاته.
وبهذا المعنى، فإن الجزء من شارع وورن، بين شارعي تشايس وشايفر، لم يعد منذ الآن مجرد ممر جغرافي، بل تحوّل إلى هوية، وكل من يقرأ اسم أسامة السبلاني على اللوحة المرورية التي سيتم نصبها الأسبوع المقبل سيعرف بأن العرب هنا لم يكتفوا بالعيش في المدينة، بل نقشوا أسماءهم على جغرافيتها، ووضعوا بصمتهم الخاصة في سجلها التاريخي.
لكن، لا يمكن فهم مغزى هذا التكريم من دون التوقف عند مسيرة السبلاني الطويلة والمعقدة، والرحلة المليئة بالآلام والأمال الكبيرة. فمنذ تأسيسه «صدى الوطن» قبل أكثر من أربعة عقود، رهن الرجل حياته في خدمة المجتمع العربي الأميركي وتعزيز مكانته في المشهد الأميركي العام، وكذلك مجمل القضايا العربية العادلة، وفي مقدمتها فلسطين.
لقد نال السبلاني خلال مسيرته المهنية والسياسية العديد من الجوائز والتكريمات الإعلامية والمجتمعية عن جدارة واستحقاق، بما في ذلك ضمّه إلى قاعة مشاهير الصحافة في ولاية ميشيغن، لكنه كان دائماً يرى أن الجوائز لا تساوي شيئاً إذا لم تُترجم إلى خدمة فعلية للناس. ولذلك فإن تكريمه اليوم بإطلاق اسمه على شارع في ديربورن قد يكون أعظم جائزة يتلقاها، لأنه اعتراف رسمي وشعبي في آن واحد، بأن ما بناه على الورق صار جزءاً من ذاكرة المكان.
لقد كرّس أسامة السبلاني حياته ونذر قلمه لخدمة قضايا العرب داخل وخارج أميركا. لم يكن مجرد ناشر جريدة، بل كان صوتاً مدوياً في الدفاع عن فلسطين، وعن لبنان وسوريا واليمن والعراق… وعن كافة المجتمعات المهمشة في ولاية ميشيغن وعموم أميركا. وكان دائماً حاضراً في الخطوط الأمامية، سواء عبر افتتاحيات الصحيفة أو عبر مواقفه السياسية الجريئة، ومن هنا، فإن الشارع الذي يحمل اسمه لن يكون مجرد تكريم لصحفي رائد، بل شاهد –كذلك– على مسيرة دفاع مستمرة عن العدالة والكرامة، وعن الدستور والقيم الأميركية.
أتذكر جيداً حين بدأت العمل مع أسامة السبلاني في قسم العلاقات المجتمعية بصحيفة «صدى الوطن» منذ عام 1986 وكنت شاهداً على التحديات الرهيبة التي واجهتها الصحيفة التي راهن الكثيرون، بمن فيهم البعض من أبناء جلدتنا للأسف، بأن مصيرها سيكون كمصير غيرها من الصحف العربية في أميركا التي توقفت عن الصدور بعد سنوات قليلة من انطلاقها، بسبب الصعوبات المالية وتعقيدات النظام الأميركي. لكن «صدى الوطن» بمسيرتها الظافرة هزمت أمنياتهم المريضة، وتمكنت من البقاء والاستمرار بدون مهادنة وتسويات، وكان إنجازها الأهم يتمثل بالحكمة الخالدة التي تحملها الآية القرآنية: «فأما الزبد فيذهب جفاء، وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض، كذلك يضرب الله الأمثال» (الرعد –17).
لقد رأيت بعيني كيف كان أسامة السبلاني يقاتل من أجل البقاء. كان يحارب بأظافره. كان يحارب بوجبته اليومية. كان يوصل الليل بالنهار من أجل إصدار العدد الجديد في موعده. لم يكن الأمر مجرد إدارة مؤسسة إعلامية، بل معركة وجود حقيقية، لأن «صدى الوطن» لم تكن مجرد وسيلة لنشر الأخبار فحسب، وإنما كانت ومازالت جبهة متقدمة للدفاع عن الهوية والمصالح العربية الأميركية، ولولا هذه الإرادة الحديدية لهذا الرجل المتحدر من منطقة بعلبك اللبنانية لما واصلت الصحيفة، الصدور أسبوعياً على مدار 41 عاماً دون انقطاع.
إن هذه التجربة الشخصية المثيرة تجعلني أنظر إلى تكريمه اليوم باعتباره تتويجاً لمسيرة طويلة من الصمود والشجاعة والإيمان بدور العرب الأميركيين. فكما صمدت الجريدة في وجه العواصف المالية والسياسية، صمد ناشرها في وجه جميع محاولات التهميش والتجاهل والعنصرية، حتى أصبح اسمُه معلماً من معالم المدينة، وركناً أساسياً من فعالياتها المجتمعية التي يتعدى دورها حدود ديربورن.
هكذا، تحولت «صدى الوطن» عبر العقود إلى ما هو أكثر من صحيفة. لقد صارت مؤسسة قائمة بحد ذاتها، ومرجعاً إعلامياً وثقافياً للمجتمع العربي الأميركي، وأرشيفاً لتجارب وإنجازات العرب الأميركيين، والأهم.. أنها وفت بشعارها بأن تكون «صوت العرب في أميركا الشمالية».
واليوم، حين يُطلق اسم ناشرها على شارع في ديربورن، فإن ذلك يشبه تثبيت صرح بازلتي في قلب المدينة، يحمل في ملامحه، الإرادة الفولاذية لأسامة السبلاني. إنه إعلان بأن الصحافة العربية الأميركية لم تكن عابرة، بل نشاط متجذر قادر على البناء والتأثير، وهذا بحد ذاته انتصار لأجيال متلاحقة من الصحفيين والكتّاب والمعلنين العرب الأميركيين الذين آمنوا بأن الكلمة قادرة على صنع الفرق.
قد تُنسى المقالات بعد مضي الوقت، وقد تختفي بعض الجوائز في أدراج النسيان، لكن الشوارع تبقى. والأجيال القادمة التي ستعبر طريق وورن الذي يحمل اسم أسامة السبلاني سوف تتساءل –ربما– عن قصة هذا الاسم، وسوف تكتشف بأن صاحبه يمتلك مسيرة نضال وكفاح ودفاع عن العدالة.
لقد بات الرجل الذي بدأ مسيرته بالورق والحبر جزءاً لا يتجزأ من ذاكرة ووجدان وتاريخ المجتمع المحلي، ومن مستقبل مدينة ديربورن بأكملها، وباتت هذه الحقيقة مصدر اعتزاز لنا: أسامة السبلاني.. نحن فخورون بك!
Leave a Reply