لم تمض أسابيع قليلة على الانكفاء العسكري الأميركي عن العراق الذي أنهى العمليات القتالية وأخرج مئة ألف جندي من بلاد الرافدين تحت جنح الظلام، حتى طلبت الإدارة الأميركية من الكونغرس الموافقة على صفقة أسلحة مع المملكة العربية السعودية بقيمة 60 مليار دولار وقد تصل الى 90 مليار دولار وفق بعض التكهنات. هذه الصفقة التي وصفت بصفقة العصر، لأنها الأضخم في تاريخ مبيعات الأسلحة الأميركية لبلد بمفرده بدت وكأنها جزء من عملية الانسحاب العسكري الأميركي من العراق. كان ثمة شعور عام لدى بلدان الخليج العربي، وخصوصا لدى المملكة السعودية أن الولايات المتحدة أسقطت أحد الأنظمة العربية “السنية” الأكثر قوة وقدرة على مواجهة الطموحات الإيرانية في منطقة الخليج وتترك المنطقة ساحة للنفوذ الإيراني، خصوصا في العراق الذي تؤشر التطورات الأخيرة فيه، والمتصلة بأزمة تشكيل الحكومة تشكيل الحكومة الى حصول تفاهم ضمني أميركي-إيراني على عودة نوري المالكي الى رئاسة الحكومة، خلافا للرغبة السعودية التي ترى في المالكي حليفا استراتيجيا لإيران ومعبرا لنفوذها الى كل منطقة الخليج. القلق السعودي، والخليجي عامة عززته الموافقة الأميركية على تشغيل مفاعل “بوشهر” النووي الإيراني مما أعطى الانطباع بأن الولايات المتحدة تميل، وفق تحليلات راجت مؤخرا، الى الاقرار بايران دولة نووية ضمن صفقة سياسية شاملة معها. هذا التطور أثار الهلع لدى السعوديين وزاد من اهتزاز الثقة بالنوايا الأميركية ومن احتمال لجوء أميركا مجددا الى الاعتماد على ايران كشرطي لمنطقة الخليج مثلما كان الحال في عهد الشاه السابق، بعد استعادة الثقة المفقودة بين الولايات المتحدة والنظام الاسلامي الإيراني، انطلاقا من القاعدة السياسية المشهورة التي تفيد أن ليس بين الدول عداوات دائمة ولا صداقات دائمة، بل هناك مصالح دائمة.
هذه الهواجس السعودية والخليجية تعاملت معها الادارة الأميركية وفق خطة تنطبق عليها المقولة الإنكليزية “رابح في كل الحالات” فصفقة الأسلحة تضخ كميات هائلة من أموال البترودولار الخليجي في الشرايين الاقتصادية الأميركية المتيبسة من جهة، ومن جهة أخرى تبعث برسالة عاجلة الى الايرانيين أن أميركا وان غابت عسكريا عن المنطقة فان “ملائكتها” تبقى حاضرة من خلال أسلحتها الأكثر تطورا وفتكا والكفيلة بردع أية طموحات ايرانية خارج اطار القبول الأميركي في منطقة الخليج التي ستبقى منطقة حيوية بجغرافيتها وثراوتها النفطية لأميركا والغرب الى سنين طويلة قادمة.
وينظر الى صفقة الأسلحة السعودية الأميركية كتعويض عن حرب أميركية أو اسرائيلية أو أميركية-اسرائيلية مشتركة ضد ايران، كان الظن السعودي والخليجي أنها أقرب الى طهران من حبل الوريد، وغامرت بعض التوقعات في ضرب مواعيدها لها خلال هذا الخريف أو حتى الربيع القادم على أبعد تقدير. غير ان الموافقة الأميركية على تشغيل مفاعل “بوشهر” أدخلت الريبة الى نفوس السعوديين وأشعرتهم بان الادارة الأميركية قد تركتهم لمصائرهم فكان لا بد من ادخال الطمأنينة الى النفوس الخليجية القلقة من امتدادت النفوذ الايراني الثوري الاسلامي الشيعي الى مملكاتهم وإماراتهم المستمرة بالضمانة الأميركية والغربية.
ولم تشأ الادارة الأميركية الانكفاء عسكريا قبل ترتيب مفاوضات اسرائيلية-فلسطينية برعايتها المباشرة لمواكبة اعادة انتشارها العسكري في المنطقة ولطمأنة “محور الاعتدال” العربي الى استمرارها في لعب دور الوسيط في أزمة الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي ومنع النفوذ الايراني المتمدد الى شاطئ المتوسط عبر الحلف الاستراتيجي مع سوريا من الاستفراد في التحكم بمجريات هذا الصراع.
والحال أن الولايات المتحدة، المنكفئة عسكريا عن الساحة العراقية تخلف وراءها ترسانة ضخمة من الأسلحة وكما هائلا من الصراعات والانقسامات الكفيلة بالهاء المنطقة وشعوبها بصراعات مذهبية وعرقية لأجيال قادمة، اذا ما شعرت أنها بحاجة الى اخراج مارد هذه الصراعات من قمقمه للحفاظ على مصالحها الحيوية واستمرار تدفق النفط الى الغرب.
والمضحك المبكي في هذه المعادلة الأميركية أن حكام المنطقة وشعوبها يبدون جهوزية كاملة لخوض هذا الصراع في غياب تام لأية ارادة لخلق منظومة مصالح وتعاون إقليمية لافادة شعوب المنطقة بدلا من جعلها حطبا لنيران حروب لن يخرج منها أي نظام أو شعب من أنظمة وشعوب المنطقة الا مدمى وكسيحا في المضمار الذي تتسابق فيه الشعوب لتحقيق المزيد من التقدم والرفاه.
Leave a Reply