بقلم صبحي غندور
صحيحٌ أنّ هناك خصوصيات يتّصف بها كلُّ بلدٍ عربي، لكن هناك أيضاً مشاكل مشتركة بين أقطار الأمَّة العربية، وهي مشاكل تنعكس سلباً على الخصوصيات الوطنية ومصائرها. لذلك هي حاجة ماسَّة الآن لمشروع عربي نهضوي مشترك، كما هي الحاجة للمشاريع الوطنية التوحيدية داخل الأوطان نفسها. فسلبيّات الواقع العربي الراهن لا تتوقّف على سوء الأوضاع العربية الداخلية وعلى المخاطر الناجمة عن التدخّل الأجنبي فقط، بل تنسحب أيضاً على كيفيّة رؤية العرب لأنفسهم ولهويّتهم ولأوضاعهم السياسية والاجتماعية، وعلى كيفية علاقاتهم مع القوى الخارجية.
ولعل التعامل مع سلبيّات الواقع والعمل لإيجاد بدائل إيجابيّة يتطلّب تحديد جملة مفاهيم وبرامج عمل ترتبط بالهويّة والانتماءات المتعدّدة للإنسان العربي، وبدور الدين في المجتمع، وبالعلاقة الحتمية بين حرّية الوطن وحرّية المواطن، وبالفهم الصحيح للعروبة وللمواطنة وللعلاقة مع «الآخر»، وأخيراً في التلازم المنشود بين الأهداف الوطنية وأساليب العمل اللاعنفية. لكن من المهمّ التوقّف عند ملاحظة السياق العام لتاريخ المنطقة العربية بأنّ «الخارج الأجنبي» يتعامل معها كوحدة متكاملة ومتجانسة، في الوقت ذاته الذي يدفع فيه هذا «الخارج» العرب إلى التمزّق والتشرذم والارتباط به.
وأهمّية هذه الملاحظة تظهر الآن حيث لم تعد هناك قضية مركزيّة واحدة تشدّ اهتمام العرب جميعاً، كما كان الحال العربي قبل منتصف السبعينات من القرن الماضي، فقد أصبح لكلِّ بلد عربي قضيته الخاصّة التي تشغل شعبه وحكومته، رغم وجود عناوين مشتركة لهذه القضايا؛ مثل: الإصلاح السياسي الداخلي، التخلّف الاجتماعي والركود الاقتصادي، تحدّي الأمن والاستقرار، الحفاظ على الوحدة الوطنية والنسيج الاجتماعي المشترك، إضافةً طبعاً إلى استمرارية وجود مشكلة الاحتلال الإسرائيلي وإفرازته على كلّ المنطقة.
نعم هناك تغييرٌ بلا شكّ يحدث الآن في المنطقة، لكنّه تغيّر حاصل دون حسمٍ للاتجاه الذي يسير فيه.. أي أنّ هذه المتغيّرات العربية تحدث الآن باتجاهاتٍ مختلفة، وليس لها مستقرّ واحد يمكن الوصول إليه. فجملة عوامل تتفاعل الآن لإحداث تغييرات داخل المنطقة العربية. بعض هذه العوامل هو نموّ طبيعيّ في مجتمعات الأمَّة، وبعضها الآخر هو مشاريع من الخارج يراهن على حصادٍ خاصّ يتناسب مع مصالحه في داخل المنطقة.
إنّ الأشهر القادمة ستكون حاسمة لمصير بعض الأوطان العربية وللأزمات القائمة في عموم المنطقة، وهي أزمات وقضايا تتفاعل منذ عقودٍ طويلة، وليس كحصادٍ للسنوات الثلاث الماضية فقط. فما كان قِطَعاً مبعثرة ومتناثرة؛ من أزماتٍ إقليمية متنوعة، ومن حالات ظلم واستبداد وفساد على المستوى الداخلي، ومن مفاهيم ومعتقدات فكرية وثقافية سائدة في المجتمعات، تجمّعت كلّها الآن وامتزجت مع بعضها البعض في ظلّ متغيّرات دولية لها انعكاساتها حتماً على مصير الأوطان العربية وما يحدث في بعضها من حراكٍ شعبي أو من مظاهر حروبٍ أهلية، وبأساليب لم تشهدها بلدان المنطقة من قبل.
وستكون هناك تأثيرات كبيرة على مجمل المنطقة لاستحقاقات عربية وإقليمية ودولية في الأشهر القادمة. فإضافة لمواعيد عمليات انتخابية مستحقة هذا العام في مصر والعراق ولبنان والجزائر وسوريا، هناك أيضاً استحقاق موعد نهاية مهلة التفاوض حول الملف النووي الإيراني، وما قد ينتج عن ذلك سلباً أم إيجاباً في العلاقات بين إيران والدول الغربية. هذا إلى جانب تفاعلات الأزمة الأوكرانية التي هي أيضاً أمام استحقاق الإنتخابات في شهر آيار (مايو) القادم.
ولن تكون الأشهر القادمة حاسمة لمصير أنظمة وحكومات عربية فقط، بل أيضاً لمصير بعض الكيانات وحدودها الجغرافية، وما هي عليه تاريخياً من تركيبة اجتماعية وسكانية. ولن يقتصر الأمر على جناحٍ واحد من جناحيْ الأمَّة العربية، فبلدان آسيا العربية وإفريقيا العربية كلّها في دائرة حسم المصير المشترك.
صحيحٌ أنّ الانتفاضات الشعبية قد نجحت في تغيير الحاكمين لبعض الأنظمة، لكن تفاعلات ما بعد ذلك كانت -وما تزال- مرحلة حبلى بالمخاطر على مستقبل هذه الأوطان ووحدة شعوبها.. ولا يجب أن ننسى أنّ بارقة الأمل في مطلع العام 2011، التي اتجهت شرقاً نحو مصر وليبيا من تونس، قد سبقها هاجس التقسيم الذي حصل جنوب مصر في السودان، ثم تلاها خطر الحفاظ على وحدة الأوطان في سوريا واليمن وليبيا.
إنّ المشكلة عربياً لم تكن –وليست هي الآن- بالأشخاص والحكومات فقط، بل أيضاً بالسياسات، وبنهج التبعية للخارج، وببعض المفاهيم والمعتقدات على المستويين «النخبوي» و«الشعبي»، وبوجود حالاتٍ انقسامية داخل مكوّنات الأوطان العربية وبين الأوطان نفسها. لذلك تتأكّد أهمية الجمع في أهداف التغيير بين شعارات الديمقراطية والوحدة الوطنية والعدالة والتحرّر الوطني والهويّة العربية، حيث في تلازم هذ الأهداف، وفي التمسّك بسلمية الأساليب، ضمانات لنجاح التغيير العربي المنشود فعلاً ولعدم حرفه أو انحرافه عن مساره السليم.
إنّ الأشهر القادمة من هذا العام هي حاسمةٌ ايضاً لأزماتٍ إقليمية عديدة، وهناك الآن سعيٌ محموم لدى إدارة أوباما للتعامل معها بالجملة بعد فشل التعامل معها سابقاً بالمفرّق. بل هناك محاولاتٌ لتوظيف ما يحدث من تركيز في الاهتمامات الشعبية العربية على قضايا داخلية أصبحت لدى البعض هي المعيار، بدلاً من معايير سابقة كانت تتمحور حول الصراع مع إسرائيل ومن يدعمها دولياً.
إنّ رؤية احتمالات الأحداث وتطوراتها القادمة هذا العام تتطلّب التعامل مع أوضاع الأمَّة العربية ككل، وعلى ما يحدث فيها وحولها من متغيّرات سياسية، قد تُدخِل بعض شعوبها في التاريخ لكن قد تُخرج أوطانها من الجغرافيا.
وهناك الآن تساؤلاتٌ عديدة تفرضها التطوّرات الراهنة في المنطقة العربية، التي تختلط فيها الإيجابيات مع السلبيات دون فرزٍ دقيق بين ما هو مطلوب وما هو مرفوض. فحتماً هي مسألة إيجابية ومطلوبة أن يحدث التغيير في أنظمة الحكم التي قامت على الاستبداد والفساد، وأن ينتفض الناس من أجل حرّيتهم ومن أجل الديمقراطية والعدالة. لكن معيار هذا التغيير، أولاً وأخيراً، هو وحدة الوطن والشعب واستقلالية الإرادة الشعبية عن التدخّلات الأجنبية. فما قيمة أيِّ حركةٍ ديمقراطية إذا كانت ستؤدّي إلى ما هو أسوأ من الواقع القائم، أي إلى تقسيم الأوطان والشعوب ومشاريع الحروب الأهلية!. ثمّ ما هي ضمانات العلاقة مع الخارج الأجنبي، وما هي شروط هذا الخارج حينما يدعم هذه الانتفاضة الشعبية أو تلك؟!
المشكلة هنا ليست في مبدأ ضرورة التغيير ولا في مبدأ حقّ الشعوب بالانتفاضة على حكّامها الظالمين، بل في الوسائل التي تُعتَمد وفي الغايات التي تُطرَح وفي النتائج التي تتحقَّق أخيراً. وهي كلّها عناصر ترتبط بمقوّمات نجاح أيّة حركة تغييرٍ ثوري، حيث لا فصل ولا انفصال بين ضرورة وضوح وسلامة القيادات والأهداف والأساليب. فلا يمكن حصر المراهنة فقط على ضرورة مبدأ التغيير، الذي يحدث متزامناً مع سوء القيادات وأساليبها وعدم معرفة حقيقة غاياتها وبرامجها الفعلية وطبيعة ارتباطاتها الخارجية، كما لا يمكن أيضاً تجاهل مدى علاقة التغيير الديمقراطي المنشود بمسائل الصراعات الأخرى الدائرة في المنطقة، وفي مقدّمتها الصراع العربي-الصهيوني والتنافس الدولي والإقليمي على المنطقة وثرواتها.
الجميع الآن بانتظار ما ستسفر عنه الأشهر القادمة من متغيّراتٍ سياسية جذرية في المنطقة العربية، وليس في الحكومات والأشخاص فقط، لكن من المحتّم أنّ القوى الدولية والإقليمية الفاعلة ليست جالسةً مكتوفة الأيدي ومكتفيةً بحال الانتظار. هي تعمل بلا شك على تهيئة نفسها لنتائج هذه المتغيّرات، بل هي تحاول الآن استثمارها أو حرفها أو محاصرتها أو التحرّك المضاد لها.. وهي كلّها حالاتٌ قائمة مرتبطة بمكان هذه المتغيّرات وظروفها، بينما لا تتوفر بعدُ رؤية عربية مشتركة لكيفية مواجهة تحدّيات الحاضر ولا طبعاً لمستقبل العرب وأوطانهم!.
جسد الأمة العربية يحتاج الآن بشدّة لإعادة الحيوية النابضة في قلبه المصري، في ظلّ أوضاعٍ عربية كانت تسير في العقود الأربعة الماضية من سيءٍ إلى أسوأ، ومن هيمنة غير مباشرة لأطراف دولية وإقليمية إلى تدخّل مباشر في بلدان الأمّة، بل باحتلال بعضها، كما حدث أميركياً في العراق، وإسرائيلياً في لبنان وفلسطين، وغير ذلك على الأبواب الإفريقية والآسيوية للأمّة العربية التي بدأت كياناتها الكبرى بالتصدّع واحدةً بعد الأخرى.
إنّ العرب جميعاً الآن قلقون على مصر، وكلّهم أملٌ بأن تعود مصر لدورها الريادي العربي، وأن تستقرّ أوضاعها الأمنية والسياسية والاقتصادية وأن تتحرّر القاهرة من قيود «كامب ديفيد» التي كبّلتها لأكثر من ثلاثة عقود فأضعفتها داخلياً وخارجياً. مصر لها الدور الريادي في التاريخ القديم والحديث للمنطقة، ومصر لا يمكن أن تعيش منعزلة عن محيطها العربي وعمّا يحدث في جناحيْ الأمّة بالمشرق والمغرب، فمصر هي في موقع القلب، وأمن مصر وتقدّمها يرتبطان أيضاً بالتطوّرات التي تحدث حولها. ولعلّه خيراً أن يكون العرب بانتظار عودة مصر من أن تكون الأمّة العربية كلّها بانتظار تقرير القوى الكبرى لمصيرها ولمستقبلها.
Leave a Reply