مريم شهاب
وُلِدت ونشأت في بيت بسيط في قرية نائية بعيداً عن ضجيج المدينة وتعقيدات الحياة فيها. عائلات تعمل وتتعب لأجل العيش على الكفاف، لكن بكرامة وتواضع وخشوع لسيدٍ واحد لهذا الكون، هو الله عزّ وجلّ.
كبرت ووعيت على الطبيعة، بكل فصولها وتفاصيلها… رحابة الحقل، ظلال الكرم، لهيب الشمس، صمت الليل، ونور القمر والنجوم… الغيوم تعبر من فوقي، والفراشات تداعب وجهي، والصخور تحملني على كفوفها.
كنت أرى قدرة الله في كل خلقه، حتى في زهرة الربيع الصغيرة بألوانها الزاهية. كنت أرفع رأسي إلى السماء وأقول: ما أعظم خلقك يا الله، في تناغم أوراق وألوان هذه الزهرة الجميلة.
كنت أسأل أيضاً: ترى هل يغضب مني الله ويحاسبني إذا بدر مني أي تقصير في عبادته؟ هل الله الرؤوف الرحيم ينتظر بالدقيقة، موعد الآذان، لألبي نداء الصلاة؟ هل خلقني الله ليراقبني ويحصي أخطائي وهفواتي فيعقابني؟
كانت لي خالة لأبي تعمل مدبرة منزل في بيت السيد محسن الأمين في بلدة شقراء القريبة من قريتنا. وفي الجلسات العائلية كانت الخالة تحدّث بما تسمعه وتراه من عائلته ومن المراجعين له في أمور الفقه والدين. فالعلّأمة السيد محسن الأمين كان من السادة الكبار وبحراً زاخراً من العلم الديني والثقافة، ومرجعاً دينياً تجاوز بلدته ووطنه حتى أصبح قطباً جاذباً للكبار والشباب ممن ينفرون من رجال الدين المتزمتين.
كانت الخالة تتحدث عن سماحة السيد وأخلاقه ولطفه مع عائلته ومع الناس، وطول أناته مع البسطاء منهم. طبعاً كان لا يلاقي تجاوباً من الشيوخ ومعلمي الدين وفق قاعدة «الله بيخنقنا». ولا زلت أذكر أستاذ مادة الدين في مدرستنا الأولى، كان شيخ بينه وبين الابتسام خصام دائم، ولا ينفك عن الحديث عن الحلال والحرام والعقاب والخوف من الله.
كنّا صغاراً، وكانت دروس ذلك الشيخ وما نسمعه من شيوخ القرية، يتداوله عموم الناس في الجلسات العائلية والمناسبات الدينية وعلى البيادر والعصرونيات، تلك الأحاديث كانت تجعل قلوبنا خائفة من عقوبة الله لأقل هفوة من هفوات الطفولة والصبا وما أكثرها.
كنا نسمع مثلاً أن نقطة من ماء طرش على ثوب الصلاة، ينقُض الوضوء وأنه يجب أن تنتظر بعد الحمّام لينشف الشعر تماماً ولتجف الرجلان بعد غسلها حتى تتمكن من مسّها بماء الوضوء. الملح مقدّس، إذا وقع القليل منه ولم تلمّه، فسوف تكنسه في الآخرة برموش العين. وغيرها من الأقاويل العجيبة الغريبة.
مضت الأيام والسنون، واندلعت حروب الأديان والطوائف، وحروب الزعماء والدهماء، حتى رمانا القدر في هذه البلاد. مات الأهل والشيوخ ولم يبق سوى بعض الذكريات الجميلة.
كل شيء يتغير بسرعة في حياتنا اليوم، لكن هل تغير شيء في أمور الدين؟ للأسف لا، نفس الفتاوى ونفس الأحاديث المتزمّتة حول تفاصيل شديدة التفاهة لا تزال تسيطر على عقول الكثيرين، وكلها من نوع «إفعل أو لا تفعل». أوامر ونواهي لا تنتهي وكل وفق أهوائه المذهبية والطائفية. لكن أين الله في كل هذا؟ أين محبة الله في كل هذه العبادات، أين غفرانه وعفوه وكرمه اللامحدود؟ أليس واضحاً أن هذا التناقض والتضارب بين المذاهب والطوائف دليل على بطلانها كلها أمام رحمة رب العالمين؟
لازلت في هذا العمر، أتأمل خلق الله البديع بالشمس والقمر والسماء والزهور والنسمات العليلة، حامدة الله على هباته التي لا تعد ولا تحصى، ومنها المتعة المجانية –التي لا يعرفها الكثيرون– في أحضان الطبيعة، أحضان الحرية. وبكل حرية أقول: يا الله أعبدك لا طمعاً في ثوابك ولا خوفاً من عقابك، بل أعبدك لأنك بديع السموات والأرض.
Leave a Reply