“هدأتْ فوق وجهيَ بين الفريسة والفارس الرماحْ/ جسدي يتدحرجُ والموتُ حوذيّهُ والرياحْ/ جثثٌ تتدلى.. ومرثية/ وكأن النهار/ حجر يثقب الحياة/ وكأنّ النهار/ عرباتٌ من الدمع/ غيّرْ رنينك يا صوت/ أسمع صوت الفرات/ قريش.. قافلة تبحر صوب الهند/ تحمل نار المجد/ والسماء على الجرح/ ممدودة.. والضفاف/ تتهامس، تمتد/ بيني وبين الضفاف/ لغة، بيننا حوار/ حضنته الكراكي، طافت به كالشراع/ بيننا/ (وافراتاه، كن ليَ جسراً وكن لي قناع)/ وترسبتُ: غيّر رنينك يا صوت/ أسمع صوت الفرات. قريش.. لؤلؤة تشع من دمشق/ يخبئها الصندلُ واللبان/ أرقّ ما رقّ له لبنان/ أجمل ما حدث عنه الشرق”.
كانت المرة الأولى التي أستمع فيها إلى أدونيس في ذلك المساء الحزيراني من العام 2003، في باحة قصر العظم، في أمسية شعرية، دمشقية، نادرة، وخارج السياق، دعت إليها آنذاك، بعثة المفوضية الأوروبية، لتوفر فرصة لقاء الشاعر السوري بأبناء جلدته من المعجبين وقرّاء الشعر، بعدما تجاهلته المؤسسات الوطنية السورية لمدة نصف قرن.
كل شيء كان معداً على الطريقة الغربية في فهم الشرق. لم تكن قاعة. كانت الأمسية في الحديقة والباحة المفتوحة على السماء. ولم يكن منبر. كانت طاولة واطئة، جلس إليها الشاعر متربعاً على الأرض، يقرأ الشعر على ضوء مصباح. وكان الازدحام وطنياً. انتشر الجمهور بين الممرات، وجلس الحاضرون على المصاطب والجدران الأعلى قليلاً. وتوزعوا بين الأحواض، ووراء الشجرات، وعلى الأدراج، وكانت الزهور والنباتات تبث روائحها الخاصة وتملأ المكان بعبق.. حزين وواخز.
وكان الشعر..
وبكى أدونيس وهو يقرأ قصيدة “تحولات الصقر”. أجهش، كالطفل، صاحب “أغاني مهيار الدمشقي” وهو يستحضر سيرة الأمير الأموي عبدالرحمن الداخل (الملقب بـ “صقر قريش”) الذي نجا من سيوف العباسيين، واستقر به الترحال في الأندلس، ونجح بإقامة عاصمة لدولته، تضاهي العاصمة الأموية الأولى: دمشق!
ربما لا يعرف أدونيس، الذي يزور ميشيغن هذه الأيام، أن تمثالاً لـ “صقر قريش” ينتصب قريباً من ساحة الأمويين بدمشق، ولكنه يعرف بالتأكيد ذلك الحنين الذي ظل يضطرم في صدر الأمير الأموي لبقية حياته، وهو يتذكر “دمشق”. ومعروفة قصته مع أشجار النخيل التي استقدمها وزرعها في بلاد الأندلس والتي بثها أرق الشعر، متماثلا ومتشبهاً معها في الغربة والحنين إلى الوطن.
في عمله النافر “أغاني مهيار الدمشقي”، الذي يعتبر من أهم أعمال أدونيس الشعرية، والذي استهلم فيه مسيرة الشاعر العباسي البغدادي مهيار الدليمي، في تجربة شعرية متوترة الرؤيا، صار فيها “مهيار” رمزاً لـ”الهوية المتحركة المسافرة”، في شبه انقلاب وثورة على المقولات الإيدلوجية والعصبيات الثقافية و”استاتيكو” الهويات الوطنية، تبنى أدونيس مقولة “الهوية” غير الثابتة العناصر، وغير الجامدة المظاهر. وقدم شعرياً لمفهوم “الهوية” كظاهرة معقدة ومركبة ومتبدلة.
وهكذا هو أدونيس يفضل دائماً أن يقدم نفسه بـ”لبوس” مختلف، يناسب الموضات الثقافية و”المقامات” السياسية، خالقاً لنفسه هامشاً كبيراً، وحيزاً يتسع حتى.. للأعمال والأفكار البهلوانية. وبالتأكيد لا يعجز أدونيس عن إيجاد الأجوبة (بما فيها تلك المقنعة والمفحمة) لحل التناقضات التي يتبناها، فهو الشاعر العالمي صاحب الهوية المتبدلة الذي يبكي في دمشق كما لو أنه عبدالرحمن الداخل. وهو أيضا المولع بالعلاقة الملتسبة مع المكان منحازاً لبيروت، المدينة المنفتحة على الفضاءات والاحتمالات الكثيرة، مقابل دمشق المكتملة النمو والمتليفة والمدينة النهائية
وأدونيس أيضا.. هو نفسه الشاعر الذي جاب العالم، وأحب العواصم، ولكنه في النهاية.. بنى لنفسه قبراً في ضيعته “قصابين”، في محافظة اللاذقية.
في أمسيته الشعرية، في جامعة ميشيغن-آن آربر، لا أعرف ما هي تلك القصائد التي ألقاها.. “مهيار الأميركي”، ولكنني وددت لو كنت هناك!
Leave a Reply