وليد مرمر – لندن
فيما تتسارع وتيرة الإجلاء المضطرب للأميركيين والأفغان المتعاونين معهم من كابول إلى أوروبا والولايات المتحدة وبعض دول الخليج، تواجه حركة طالبان –التي سيطرت على كل أفغانستان في غضون أيام ومن دون أية مقاومة تُذكر– تحديات متزايدة في إدارة شؤون الدولة المعقدة. وربما هذا هو سبب الاحتجاجات والمظاهرات التي اندلعت في كابول ومدن أخرى وواجهتها طالبان بالعنف.
تقول وكالات الإغاثة إن خدمات مثل الكهرباء والصرف الصحي والمياه النظيفة قد تتأثر قريباً. كما تعطلت خدمات الشرطة المحلية وانتشر بدلاً منها مقاتلو طالبان في دوريات ونقاط تفتيش لتطبيق القانون، على النحو الذي يرونه مناسباً. وقد كثف عناصر طالبان عمليات البحث عن الأشخاص الذين يعتقدون أنهم عملوا مع القوات الأميركية وقوات الناتو خصوصاً بين الحشود التي تنتظر المغادرة خارج مطار كابول، وهم قد هددوا بقتل أو اعتقال أفراد عائلات أولئك الأشخاص إذا لم يتمكنوا من العثور عليهم، وفقاً لمعلومات مسربة من وثائق الأمم المتحدة، على عكس ما يتم تداوله عبر وسائل الإعلام العالمية بشأن عفو عام أصدرته طالبان بحق جميع المتعاونين مع القوات الأميركية.
ربما تكون حركة طالبان خصوصاً بفرعها «الحقاني» قد اكتسبت خبرات فريدة في قتالها ضد «الناتو» على مدى الأعوام الماضية. ولكن جبهات القتال شيء وإدارة شؤون البلاد شيء آخر.
فمثلاً يُعتبر الجنرال شارل ديغول، بطل فرنسا ومن أهم شخصياتها التاريخية حيث قاد بلاده أثناء الحرب العالمية الثانية وترأس الجمهورية الخامسة مرتين، كل ذلك قبل أن يصوت الشعب الفرنسي ضد سياساته عام 1969 ما دفعه للاستقالة. كان لسان حال الفرنسيين –حينها– حسب بعض المؤرخين: «إن ديغول هو رجل حرب ناجح، ولكننا الآن نريد رجل سلام ناجح».
وبالعودة في الذاكرة إلى نجاح الثورة الإسلامية في إيران عام 1979 يمكن ملاحظة أمور في غاية الأهمية.
أولها اجتماع كل القوى السياسية على اختلاف مشاربها اليسارية والشيوعية والإسلامية والعلمانية والمطلبية على شخص آية الله الخميني وتصويتها الإيجابي على نظام ولاية الفقيه. فبعد شهرين فقط من انتصار الثورة دعا زعيم الثورة روح الله الموسوي الخميني، الإيرانيين للمشاركة في استفتاء عام لتحديد هوية ونوع الحكومة الجديدة التي يريدها الشعب بديلاً عن النظام الملكي. وقد شارك في الاستفتاء 98 بالمئة ممن لهم حق التصويت، وأعلن 99 بالمئة منهم موافقتهم على قيام جمهورية إسلامية. إذ كان لدى الإمام الخميني مشروع متكامل للحكم عمل على إنضاجه لعقود مستفيداً من كتابات الشيخ الكركي والشيخ النراقي والشيخ النائيني وغيرهم… وبذلك لم يحصل أي نوع من الفراغ السياسي في إيران عقب الإطاحة بالشاه. وهو ما كان أمراً مفصلياً لاستمرارية عمل الدولة وعدم تفككها وانحلالها، إلى جانب القرار بالغ الذكاء الذي اتخذه الخميني بعدم الاصطدام بالجيش مهما غلت التضحيات. وهكذا تحول هذا الجيش إلى العامود الفقري للجمهورية بعد محاسبة جنرالاته الذين أعطوا الأوامر بقتل الشعب الإيراني.
وبالعودة إلى طالبان فمن المعروف عن الحركة اعتمادها «النسخة المبسطة» من الفقه الحنفي–الصوفي في تعاملاتها وهي نسخة بدائية تفتقر إلى التجربة والدينامية المطلوبة لتسيير مرافق الوطن بشتى تشعباتها ذلك فضلاً عن عدم وجود مشروع فكري–سياسي متكامل للحكم والقضاء والعسكر والعلاقات الدولية وما شابه. وبعد استسلام الجيش الأفغاني وفرار أفراده، تواجه طالبان –لو استطاعت الحكم– تحديات جدية لبسط الاستقرار سواء على المدى القريب أو البعيد، لاسيما بسبب صعوبة استمرار تمويل الدولة، حيث كشف مسؤولون في صندوق النقد الدولي، يوم الأربعاء الماضي، عن ضغوط تمارسها إدارة بايدن لمنع حصول أفغانستان على حوالي 460 مليون دولار من احتياطيات الطوارئ، ومنع مصادقة البنك من إمداد أفغانستان بـ12 مليار دولار على مدى السنوات الأربع القادمة تنفيذاً لاتفاق تم التوصل إليه في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي بين أكثر من 60 دولة. وهذه المساعدات تُعتبر في غاية الأهمية لبلد تقدر الأمم المتحدة أن الكثيرين فيه يعانون من الجوع (قدر برنامج الغذاء العالمي عدد هؤلاء بحوالي 14 مليون شخص من بينهم مليونا طفل).
ولا شك أن دول العالم وخصوصاً دول «الناتو» لم تصح بعد، من تبعات تطور الأحداث الدراماتيكية في أفغانستان والتي وصفها، توم توغندهات، رئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس العموم البريطاني بأنها «بوضوح أكبر كارثة سياسة خارجية منفردة منذ أزمة السويس عام 1956». كما أن الرئيس الأميركي جو بايدن لم يخف امتعاضه من عدم مقاومة الجيش الأفغاني لطالبان واستسلامه لها من دون مقاومة تذكر. ومن المعلوم أن الولايات المتحدة قد قامت بتدريب الجيش الأفغاني الذي يبلغ عديده 300 ألف لمدة 20 عاماً كما وقامت بتسليحه بميزانية قاربت 90 مليار دولار.
فهل كانت الإدارة الأميركية ومن خلفها «الناتو» تخطط لحرب أهلية دامية قد تمتد لسنوات بين الجيش الأفغاني وما يقارب من 80 ألف من قوات طالبان؟ وبالتالي هل كان قرار عدم الاصطدام بين الجيش وطالبان قراراً حكيماً جنب البلاد العودة مجدداً إلى دوامة الصراع الأهلي والقبلي؟
إن حالة الاضطراب والارتباك الذين تشهدهما عملية إخلاء الدبلوماسيين والعسكريين وحلفاء واشنطن و«الناتو» هو دليل دامغ على أن ما حصل لم يكن مخططاً محبكاً من قبل الولايات المتحدة.
وهنا لا بد من الإشارة إلى أن طالبان ليست جسماً متجانساً ذا سياسة موحدة. فمثلاً يعتبر الرجل الثاني في طالبان، الملا برادر، حليفاً غير معلن لواشنطن، وهو فضلاً عن ذلك يحظى باحترام مختلف فصائل طالبان. ولقد تم تعيينه رئيساً لمكتبهم السياسي في الدوحة حيث قاد المفاوضات مع الأميركيين التي أدت إلى انسحاب القوات الأجنبية من أفغانستان، ثم قاد محادثات السلام مع الحكومة الأفغانية والتي باءت بالفشل.
لكن الشخص الثالث في الحركة، سراج الدين حقاني، يعتبر عدواً لدوداً لواشنطن حيث صنفت قواته المعروفة بـ«شبكة حقاني» إرهابية. وهي كانت واحدة من أخطر الفصائل التي قاتلت القوات الأميركية وقوات حلف شمال الأطلسي في العقدين الماضيين بأفغانستان حيث كانت معروفة باستخدامها العمليات الانتحارية كما وينسب إليها عدد من أعنف الهجمات خلال السنوات الأخيرة.
أمام كل هذا لا بد من السؤال الأهم: هل سيطرة طالبان على أفغانستان تعني انحسار الدور الأميركي في المنطقة؟
لقد شرعت موسكو فعلاً بتجهيز أكبر قاعدة عسكرية لها خارج روسيا في طاجيكستان شمال أفغانستان والتي تستضيف أكثر من ستة آلاف جندي روسي، وذلك تحسباً لتقدم قوات طالبان نحو حدودها الجنوبية.
ولا شك أن روسيا تتطلع إلى ملء الفراغ الناتج عن الانسحاب الأميركي الكارثي وذلك عبر محاولة ضم أفغانستان إلى منظمة معاهدة الأمن الجماعي التي تترأسها وتضم كلاً من طاجيكستان وكازاخستان وقيرغيزستان وأرمينيا وبيلاروسيا.
لقد كانت هزيمة الإتحاد السوفياتي عام 1989 في أفغانستان وانسحابه بعد عشر سنوات من الغزو سبباً رئيسياً لتصدعه وتفككه. فهل يكون الانسحاب الأميركي من أفغانستان، مقدمة لفرط عقد «الناتو» وانكفاء المشروع الأميركي في المنطقة؟
walidmarmar@gmail.com
Leave a Reply