لا يحتاج المرء لانتظار انتهاء حلقات الثنائي جمال حماد-أحمد منصور على «الجزيرة» ليخلص إلى كونهما يعزفان نوتة قديمة-جديدة من لحن نشاز ألّفه أصحاب السابقة في التهجم المقزّز على حركة القومية العربية ورمزها الأبرز جمال عبد الناصر. والجليّ بحق أنه ما من جديد في سوقيّة وفجاجة ما يهوي به أحمد منصور على أدمغتنا من غثّ العرض وبهلوانية الطرح. لكن العتب كلّه هو على السيد حمد بن جاسم آل ثاني، مسؤول «الجزيرة»، لسكوته عن ردّاح فتنوي يصحو وينام على كراهية التيار العروبي، متفننا في الهزء به والتحامل عليه جيئة ورواحا، ثم اصطفائه ايّاه ليتفرّد -كمستثنى بإلا- ببرنامجين أسبوعيين -لا واحد فقط أسوة بزملائه- يطلّ منهما على الفقراء عباد الله ليصليهم سوء العذاب وكمد المشاهدة. ولو اقتصر الأمر على «بلا حدود» لهانت البلوى… أما وهو يشهد كل أسبوع على العـصر -في خسر- فهو مما يعسر تقدير آثاره المرضية على نفس المشاهد وعقله ووجدانه.والراجح أن دليل تهافت أحمد منصور وجمال حماد الأسطع هو أن «الجزيرة» بالذات سبق واستضافت الأخير في برنامج «زيارة خاصة» لسامي كليب للحديث عن ذات الموضوع منذ أعوام ثلاثة فقط، بل وإن حماد هذا كتب عن «يوليو» مؤلفا ضخما لا لزوم بعده لشهادة على العصر أو المغرب. ثم تأتي «الجزيرة» في عرض «سواريه» له بعد أن شاهدنا بتأفف عرضه الـ«ماتينيه» من قبل .. أمن مسوّغ لذلك؟ اللائق بـ«الجزيرة»، وهي السبّاقة في التفاعل مع قضايا الأمة -وآخرها العدوان على غزة- والتي تحظى معظم برامجها الحوارية الأخرى، فضلا عن أخبارها ووثائقياتها، بكل التقدير والإطراء، ألاّ تعدل هذه الإيجابيات الزاخرة بملهاة ميلودرامية تدعى «شاهد على العصر».
أكاذيب.. على العصر
والحق عندي أن السيد حمد بن جاسم آل ثاني يستطيع الانتفاع بمواهب كامنة عند أحمد منصور – عقب وقف «شهادته» على الفور، ويا حبذا «بلا حدوده»- باستبدالهما ببرنامج شهري عن الفلك والبيئة وظواهر الطبيعة، يشاركه فيه أثيره وخدينه زغلول النجار. بذلك ينصرف لمعرفة تمكث في الأرض، متفرّغا لتفسير ثقب الأوزون ومثلث برمودا، لنا عباد الرحمن.نأتي الآن إلى الشاهد الذي «يشهد» بالبيضة والحجر وهو -انتباه!- جمال حماد. من هو ؟ باختصار: رائد مشاة، قرض الشعر فسطّر قصائدا في حمد فاروق ومدحه -وكلها منشورة في مجلة الجيش المحفوظة بالمتحف الحربي- فيما هو يدرّس بالكلية الحربية.
خدم بعدها في مكتب اللواء محمد نجيب، مدير سلاح المشاة، حيث التقى وزامل وصاحب الرائد عبد الحكيم عامر فيه. تردّد جمال عبد الناصر في قبوله بعضوية تنظيم الضباط الأحرار، ثم قبل تحت ضغط عامر، سيّما بعد أن اختير نجيب ليكون واجهة التنظيم حين الثورة. إدعى جمال حماد أنه من كتب البيان الأول لـ«يوليو».. والأصح أن من كتب المسوّدة هو عبد الحكيم عامر بخط يده. وخطه معروف. وبحضور جمال عبد الناصر وزكريا محيي الدين، وأن حماد استدعي فقط لمراجعة البيان وتدقيقه لغويا بحكم خلفيته الأدبية، وهو لم يكتب فيه حرفا واحدا، فيما عدّل محمد نجيب بعض العبارات فيه. بعد تمضيته شهورا قلائل مساعدا لعامر في مكتب نجيب -كما قبل يوليو- قرّر عبد الناصر إبعاده عن القاهرة مبتعثا إياه ملحقا عسكريا في «سوراقيا»، ومركزه دمشق، مطلع عام 53، حيث قضّى نيّفا وأربعة أعوام قبل أن يعفى منه اثر عودته ذات يوم من 1957 الى القاهرة.عيّنه صديقه وراعيه عبد الحكيم عامر حينها معلّماّ في الكلية الحربية، ثم نقّله بين ادارة المشاة، والاتصال مع البوليس الدولي في سيناء وغزة، والاعارة لليمن منفقا بينهم سنوات ثمان، قبل أن يستنسبه عامر محافظاّ لكفر الشيخ عام 1965.ما بين كفرالشيخ وبعدها المنوفية، قضّى حماد سنوات ثلاث في منصب المحافظ انتهت اثر سقوط وليّ أمره عبدالحكيم عامر عقب هزيمة 1967. ترى أيتكرم -الضابط الحر- بشرح ملابسات حكاية الصناديق المحمّلة على متن الطائرة المصرية التي أقلّته من دمشق للقاهرة عام 57، وتبليغ العقيد طيار سعدالدين الشريف عنها بعد ضبطها في مطار ألماظة.. وما اكتفي به من اضافتها لعهدة نوادي القوات المسلحة؟ أم سيتفضّل الثائر الهمام بتبيان قصة تقرير الدكتور سالم شحاتة (أمين الاتحاد الاشتراكي بكفر الشيخ) المرفق بمستندات موثّقة، تفيد بالسطو على عهدة منزل المحافظ… وثم نقل على اثرها الى المنوفية؟ أم سيعرب الطهراني الزاهد لنا أحجية ضبط سيارة نصف نقل تابعة لمحافظة المنوفية عند نقطة مرور قائمة على حدود القليوبية والمنوفية فيما هي متجهة لعنوانه في القاهرة، محمّلة بكمية معتبرة من السجاجيد؟ ( الحادثة موثّقة في محضر مسجل بدفاتر نقطة المرور تلك). أوّاه يا عبدالحكيم.. كم شفعت وكم حميت وكم تستّرت!.. وكم كابد عبدالناصر حتى طوّح بشلّتك؟قبع حماد في منزله لنصف دزينة من السنين بعد خروجه على المعاش إلى أن واتته اللحظة من جديد مع ترسّخ قدمي أنور السادات في السلطة، وبالأخص مع قفز حسني مبارك عليها. لماذا؟ الثابت أن حماد كان قائد فصيلة حسني مبارك في الكلية الحربية (قبل فرزه للكلية الجوية كما النظام حينها)، ولذا اصطفاه مؤرخا للنظام لحد الأمر بتفرده في إلاطلاع على كافة وثائق الدولة السرية، السياسية منها والعسكرية. واللافت ترئيسه -أيام السادات- على جمعية الصداقة المصرية-الأميركية.. أكرر الأميركية! علما أن حماد لم يقترب ما بين 57 (عودته من دمشق) و68 (خروجه على المعاش)، أو طيلة سنوات عزلة المعاش التالية، من أي ملف للسياسة الخارجية، دعك عن الشأن الأميركي بالذات. حماد هذا هو أحد عناصر الثورة المضادة التي عشّشت في أحشاء «يوليو»، ثم أفرزت سمومها في أوعيتها طلبا لهلاكها واندثار أثرها. هم أضراب أنور السادات وحسن التهامي وأمين شاكر وعلوي حافظ وعبدالمنعم أمين و.. إياه. لقد هزل الأمر إلى أن بلغ بحماد هذا أن يحدثنا عن الفساد والكيف والمحسوبية، فيما هو محسوب على شلّة تخصصت بها وبرعت، وكان راعيها صاحب الفضل عليه عبد الحكيم عامر. لم يحفظ لذكراه الوّد، فانهال عليه بمعول يريد رأس الثورة وقائدها عبر مسبار عامر، مغفلا أنه لولاه لربما كان السجن نصيبه لو كانت يد عبد الناصر طليقة. و كعادة «الفكتور» في ارتكاب الجنايات التاريخية وجدناه يكشف لنا بلوعة كيف وضع عبدالناصر كمال الدين حسين تحت الاقامة الجبرية ليلة قران ابنته، فيما العروس ليلتها هي هدى عبدالناصر، وكيف لم يفطن الثنائي البليد لأن حماد لم يكن قد وطأ أرض اليمن في 22 أيلول (سبتمبر) 1962 لسبب بسيط وهو أن ثورته لم تر النور الا بعدها بأيام أربع. ثم تصل السماجة منتهاها بسماع فزورة تصويت عبداللطيف البغدادي في استفتاء 15 آذار (مارس) 1965: اذا كان عبدالناصر قد سهر الليل بطوله منتظرا نتيجة فرز قلم البغدادي الانتخابي في الصباح فكيف به اذن يزّور الصناديق؟ احتارت الثورة المضادة كيف تنهش لحم «يوليو» ورمزها، وبعد مماته أكثر مما في حياته، في سعار لن يهدأ أو يلين الاّ بهزيمة «التبعية العربية» مرة والى الأبد… وظني أن يوم الحساب يدنو حثيثا وأكيدا. أما «فكتور الجزيرة»، فكم تدثّر المشاهدون درءاّ لنوبات برد تنتابهم فيما هم يحملقون به وهو يتأوّه ولها بالديموقراطية والحريات وحقوق الانسان والجماد والفقاريات، متضاحكا من غير سبب، وموصلاّ اياهم لحد الدعاء عليه بالخدمة في بلاط… حسني مبارك.اّمين!
Leave a Reply