كان من المداومين على ارتيادِ المقهى -حسن عجمي- الفنانُ التشكيلي ستّار كاووش الذي لا تفارق كتفَهُ عروةُ حقيبتِهِ الجلديّة المتدلِّيةِ إلى خصرهِ. كان نتاجُهُ الفنّي في الرسم محطَّ إعجابِ وانبهارِ الأدباء لاسيّما بعد أن أنضجَ تجربتَهُ الفنّيّة تحت تهاليل وإضاءات وإشارات وتجلِّيات الإنطباعيّة الألمانيّة في الرسم ضاخّاً إليها تنوُّعاً لايمكن حصره أو اللحاق به من موضوعات بيئتهِ العراقيّة المدينية والريفية في تجسيدِ مشاهد لوحاته حتّى أرساها على الإيحاء ببصمته.فيا لذلك الرافدينيّ العصاميّ المبدع من روحٍ عظيمة في صداقة الأدباء، ستّار كاووش صاحب تسريحة الشعر المنسرح بكثافةٍ لامعة لدرجةِ أنّ الشاعر حسين حسن قد عانقَهُ بحنان الأبوّة قائلاً له: إنّ هيئةَ شعرِ رأسِكَ هذه تحيلُني إلى هيئةِ شعرِ رأسِ لوركا شاعر إسبانيا الشهيد.
لمْ يخلُ المقهى مِنْ تقاطرِ الفنّانين الذين لم تخلُ علاقاتُهمْ من صداقة الأدباء، فكان من روّادِها الفنّان نبيل إبراهيم مخرج برنامجَي عدسة الفن والمقام العراقي التلفزيونيَّين فإذا دخلَ المقهى صاحَ أحدُهم: جاء الأوردي ، ولا أدري من أين التصَقَتْ بهِ هذه الشهرة؟ مع أنّهُ لاعلاقة له بالسلالة الأورديّة ولابالسينما الأورديّة. تعارفْنا بمجرّدِ أنّني أعلمْتُهُ بأنّ الفنّانَ المغترب سعد داود سلمان هو واحدٌ من أصدقائي الشخصيّين وكان المجرم التاريخيّ الدمويّ ناظم كزار قد زجَّ به في الأقبية السريّة الإنفراديّة عاماً كاملاً دون تهمة وقد نجا من ذلك المسلخ بإعجوبةٍ بالغة، حيث ليس هناك من عودة لمن يمرّ تحت إشارة كزار-بوّابة القبر-وكانوا يطلقون عليه في مديريّة الأمن العامّة بـ«السيّد العام»!!
كانت بغداد حالَ مغيبِ الشمس يطبقُ عليها الظلام وتتناهبُها الوحشةُ مثلما يرين على أجوائها الصمتُ الرهيب إلاّ من نباحِ كلابٍ سائبة ومواء قطط تائهة أهزلَها الجوع هي الأخرى. فكنّا نلوذ لتقضِيَة سهراتنا في نادي الإتّحاد أو في غُرَفِ الفنادق أو مكاتب الأصدقاء، وكان الفنّان نبيل واحداً من حائزي المكتب في إدارةِ عملِهِ. يومّ دعاني في المرّة الأولى لتمضيةِ السهرة في مكتبِهِ فوجئتُ حالَ دخولِنا بتوجُّهِهِ إلى غرفةٍ فارغةٍ إلاّ من شاهدة وصورة لإمرأةٍ مُسِنّةٍ متلفِّعَةٍ بالفوطة والملاّءة (الجرغد) والعباءة العراقيّة السوداء، رافِعاً يديه مُتَمتِماً بقراءة سورةِ الفاتحة.
– ماهذا الصنيع يانبيل؟
– هذه الشاهدة تؤرِّخُ لوفاةِ أمّي رحمها الله وتلك صورتُها، وقد أوصتْني بأنْ لا أجهدَ نفسي بعناءِ الذهاب إلى المقبرة التي تضمُّ جثمانَها الطاهر وهي التي أوحتْ لي بهذا المشهد والذي رأيْتَ ما صنَعْتُ، أداومُ عليه وأفتتِحُ بهِ كلِّ مرّةٍ دخولي إلى المكتب.
فما كان منّي إلاّ أنْ عانقْتُهُ وقد دفعتْني رابطةُ الإحساسِ بالوفاء إلى ذلك مستعيداً وجهَ أمّي رحمها الله والذي لمْ يفارقْ ذاكرتي يوماً ما منذ ساعةِ رحيلِها الأبديّ أيام التاسعة عشر من عمري، ولقد صدق برنارد شو إذ قال «الإنسان إبن التاسعة عشر»، فشاركْتُهُ قراءةَ الفاتحة إذ أنّها هي الأخرى من جمهرةِ الداخلاتِ إلى قداسةِ الأمومة.
كما كان من روّاد المقهى الفنّان مجبل علي والشاعران عبداللطيف الراشد وخليل الأسدي، كذلك كان يؤمّها الشاعر حسين الحسيني بصحبة صديقه الشاعرعبدالمطلب محمود أحد هواة لعبةِ الدومينو مثلنا فيما لم يكنْ يميل إليها الحسيني. وكان من روّادِها المواظبين الشاعر عبدالمنعم حمندي الذي صدرتْ له مجموعتُه الشعريّة «أوّل النار» عن دار الشؤونِ الثقافيّة. وقد شكّلَتْ رقّةُ كلماتِ إهدائه لي مجموعته على الصفحة الأولى بدايةَ انشدادِ عُرى الصداقة فيما بيننا. ويالروْعتِهِم من أصدقاءٍ لا تحِسُّ بين ظهرانيِّهِم أنّكَ بحاجةٍ إلى شيء، وفوق ذلك أنّكَ خارج الواقع، وفي عالم التجلِّيات الشعريّة التي لاتضاهيه كلُّ عوالم ألف ليلة وليلة.
Leave a Reply