يتعامل الكل، سواء في سوريا أو خارجها، مع الأحداث والتموضعات السياسية والعسكرية، كما لو أنّ الحرب بدأت تحطّ أوزارها، على وقع التقدم الميداني الحاسم للجيش السوري وحلفائه في شرق البلاد، حيث يبدأ تنظيم «داعش» يلفظ أنفاسه الأخيرة في البادية السورية.
في الرقة، خسر تنظيم «داعش» الإرهابي، آخر معاقله في العاصمة الثانية لـ«الخلافة»، بعد أسابيع قليلة على خسارته العاصمة الأولى الموصل، وبات إجمالي ما يسيطر عليه في الأرض السورية لا يتجاوز الخمسة بالمئة، بحسب تقديرات وزارة الدفاع الروسية، بعدما تمكن الجيش السوري وحلفاؤه من استعادة دير الزور والمياد والموحسن مواصلاً زحفه نحو منطقة البوكمال قرب الحدود العراقية، حيث انطلقت الأسبوع الماضي حملة عسكرية جديدة لتحرير آخر معاقل «داعش» في العراق وصولاً إلى مدينة القائم عند الحدود السورية.
النصرة تحتضر
وفي إدلب، تتواصل الاتصالات لإدخال جزء كبير من المحافظة، في نظام أستانا الخاص بمناطق خفض التصعيد، في حين تعيش «جبهة النصرة»، أسوأ أيامها الى حد الاحتضار، في ظل الاستهدافات المتكررة من قبل الطيران الروسي لقاداتها، والتصفيات الداخلية التي أزاحت قادة آخرين فيها عن المشهد، في ما يعد مؤشراً على تحوّلات هيكلية قد تشهدها تلك الجماعة الإرهابية على نحو قد يجعلها تسير في نهاية المطاف إلى خيارات نقيضة للغاية التي قامت من أجلها، بما يضمن لها -عبر فصيل جديد ربما- الدخول في التسوية السياسية.
تلك التحوّلات القائمة في الميدان السوري، تشي بأنّ الأزمة السورية، تمضي باتجاه شكل جديد، تتقلص فيه الصراعات العسكرية إلى المستوى الأدنى، لتحلّ مكانها صراعات سياسية، مضبوطة الإيقاع، على خط أستانا-جنيف.
ولعلّ ما يشي بذلك، هو التصريحات التي بدأت تطفو على السطح، منذ فترة قصيرة بشأن مرحلة ما بعد الحرب، والتي تدور بمعظمها حول قضية قد تحتل صدارة الأولويات خلال المرحلة المقبلة، وهي إعادة الإعمار التي قد تشهد بدورها صراعاً سياسياً ودبلوماسياً حاداً، بين طرفين، الروس والصينيين من جهة، والأوروبيين والأميركيين من جهة أخرى.
إعادة الأعمار
وعلى هذا الأساس، فإنّ روسيا تعدّ العدّة لطرح القضايا المرتبطة بإعادة إعمار سوريا، خلال منتدى اقتصادي دولي، يفترض أن يُعقد في مكان شديد الحساسية بالنسبة إلى الغربيين، وهو يالطا في شبه جزيرة القرم.
ولعلّ حساسية هذا المكان ورمزيته تشيان بالكثير، فيالطا كانت المدينة التي جمعت حلفاء الحرب العالمية الثانية -ثيودور روزفلت وجوزيف ستالين وونستون تشرشل- قبل 77 عاماً، للاتفاق على تقاسم النفوذ في مرحلة ما بعد هزيمة ألمانيا النازية. وأما شبه جزيرة القرم فهي بحد ذاتها عنوان للاشتباك الدولي بين روسيا والغربيين، منذ ضمها إلى روسيا الاتحادية قبل ثلاثة أعوام.
ولكن ثمة قاعدة ثابتة في تاريخ الحروب، وهي أن أشرس معاركها وأكثرها خطورة تجري رحاها في نهاياتها. انطلاقاً من ذلك، يمكن فهم طبيعة الألغام القائمة في الحرب السورية، والتي تتمحور حول جبهتين: الأولى شرقاً في الرقة، والثانية جنوباً في الجولان.
الورقة الكردية
على هاتين الجبهتين بدأت تتجمع كل تعقيدات الحرب السورية، بين العدوين اللدودين، روسيا والولايات المتحدة، وحلفائهما.
ففي الرقة، يمكن قراءة الاندفاعة غير المسبوقة لـ«قوات سوريا الديمقراطية» (قسد) التي يهيمن عليها الاكراد، باتجاه اتمام السيطرة على العاصمة الثانية لـ«دولة الخلافة»، في أسرع وقت ممكن، ومحاولة التمدد جنوباً باتجاه دير الزور، وتحديداً إلى حقول النفط المهمة في تلك المدينة التي يقترب الجيش السوري وحلفاؤه من تطهير أحيائها وقراها من سيطرة «داعش».
ومما لا شك فيه، أن الولايات المتحدة، وبعد سلسلة الانتكاسات التي واجهتها سياستها في الشرق الأوسط عموماً، وفي سوريا على وجه التحديد، لم تعد تمتلك من أدوات سوى الاستفادة القصوى من الورقة الكردية التي باتت في الواقع لغماً كبيراً في الصراع السوري، وسلاحاً ذا حدين، للأطراف كافة، بما في ذلك الأكراد أنفسهم.
ولا شك في أن التحرّكات السياسية والدبلوماسية الجارية حول الرقة، حالياً، والزيارات المتتالية التي بدأت تشهدها -بما في ذلك زيارة ثامر السبهان قبل أيام، والتي نظر إليها كثيرون باعتبارها نذير شؤم- تشي بأنّ كل الصراع السياسي سيتخذ منحى جديداً لحسم مصير هذه المنطقة الحساسة في سوريا.
ومن الطبيعي، أن يكون الطرف الأميركي ومن يدور في فلكه، راغباً في تفجير الموقف في الرقة لتعطيل الحل السياسي الذي فرضته روسيا في الميدان، قبل أروقة الدبلوماسية، وذلك من خلال الدفع بالأمور نحو مواجهة عسكرية عنيفة بين «قوات سوريا الديمقراطية» والجيش السوري وحلفائه.
ويبدو أن روسيا تتعامل مع الموقف، من خلال سيناريوهاته المختلفة، والتي تدور حول خيارين لا ثالث لهما، فإمّا الدبلوماسية الناعمة التي من شأنها نزع فتيل لغم الرقة، وإمّا الاستعداد للمواجهة العسكرية.
ويبدو كذلك، أن الجهود الروسية تنصب حالياً على الخيار الأول، الذي يقوم على مبادرات سياسية من شأنها طمأنة الأكراد، وسحبهم من تحت المظلة الأميركية. ولعلّ هذه المقاربة تنطلق من إدراك الروس بأنّ العلاقة بين أكراد سوريا والولايات المتحدة يشوبها الكثير من الحذر والتشكيك، لا سيما بعد تخلّي الأميركيين عن أكراد العراق في سعيهم نحو الانفصال. وانطلاقاً من ذلك، يمكن الاستفادة من هذه العلاقة المعقدة، من خلال تكريس تحالف جديد بين الدولة السورية والمكوّن الكردي، بمنح الأكراد حكماً ذاتياً، وهو ما ألمح إليه وزير الخارجية السوري وليد المعلم، في آخر تصريحاته التي تلتها أنباء -ما زالت غير مؤكدة- عن اتصالات قام بها اللواء علي مملوك مع ممثلي الأكراد في الحسكة.
اللغم الإسرائيلي
ولا شك في أن كلاماً كهذا يتجاوز منطق المساومة والابتزاز الذي دأبت عليه إسرائيل، للاستفادة القصوى من منطقة خفض التصعيد في درعا، لإبعاد «حزب الله» والحرس الثوري عن خط فك الاشتباك في الجولان إلى أقصى مدى ممكن، فالتحرّكات الإسرائيلية الأخيرة لا يمكن وضعها سوى في إطار اللغم البديل الذي يمكن تفجيره، في حال تمّ نزع فتيل اللغم الأول في الرقة.
آخر تلك التحرّكات، لم تُسلّط الأضواء عليه كثيراً، برغم دلالاته الخطيرة، وقد تمثل في تنفيذ إسرائيل غارة على مواقع «جيش خالد بن الوليد»، وهو أحد التنظيمات الجهادية الإرهابية التي كانت تل أبيب تغض الطرف عن سيطرته على أراض تتاخم الجولان، فيما يعتبر تحوّلاً كبيراً في الخيارات الإسرائيلية العسكرية والسياسية، على نحو يمكن تفسيره بأمرين: إمّا الرغبة في التراجع عن أية اندفاعة خطيرة تجاه سوريا -كنتيجة طبيعية لعامل الردع الذي فرضه «حزب الله» على جبهتها الشمالية- أو الاستعداد لتحرّك مباشر، لتفجير اللغم الجولاني.
كلا السيناريوهين مرجح، ولكن الثاني يتقدّم اليوم، أكثر فأكثر، فالتصعيد الإسرائيلي في الجولان يتزامن مع إجراءات أخرى ضد محور المقاومة، بدأت الولايات المتحدة في اتخاذها، سواء في الكونغرس، حيث وضعت إدارة دونالد ترامب قانون العقوبات على «حزب الله» في مسار تشريعي يتوقع أن يبلغ خواتيمه الدستورية دونما معوقات، أو في أروقة وزارة الدفاع، حيث دعيت إسرائيل للمرة الأولى، لتكون شريكة فيما يسمى «التحالف الدولي» ضد الإرهاب، لتكتمل بذلك أركان «مجلس الحرب» الأميركي، الذي ستتغير أهدافه، عاجلاً أم آجلاً، في ظل انهيار الغاية (العلنية) «الداعشية» التي نشأ من أجلها!
Leave a Reply