نبيل هيثم – «صدى الوطن»
إعلانان متوازيان من طهران وواشنطن، أذن بهما الرئيسان الإيراني حسن روحاني والأميركي باراك أوباما لمرحلة «السلام النووي».
الخطوة لم تكن مفاجئة بطبيعة الحال، خصوصاً أن أسس «السلام النووي» وضعت بالفعل فـي اتفاق فـيينا، فـي تموز (يوليو) الماضي، بانتظار الضوء الأخضر التقني الذي أطلقه الأمين العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية يوكيا أمانو، حين أعلن بوضوح أن إيران أوفت بالتزاماتها الخاصة بالتسوية النووية.
وبالرغم من انعدام عامل المفاجأة فـي دخول التسوية النووية حيّز التنفـيذ، خصوصاً ان الطرفـين الإيراني والأميركي مهّدا لذلك، ضمن مسار سياسي وتشريعي معقد، إلا أن بدء مرحلة «السلام النووي» رسمياً يعني أن ثمة مرحلة جديدة فـي العلاقات الإقليمية والدولية قد بدأت، لتصبح كافة الملفات رهناً بهذه اللحظة الفارقة.
ويعني ذلك، بداية، أن إيران والولايات المتحدة قد وضعتا بالفعل قواعد اشتباك جديدة، سياسية هذه المرّة، تحت ظلال «السلام النووي»، وإن بدا الطرفان حريصان على عدم منح بعضهما «شيكاً على بياض»، وهو أمر طبيعي فـي العلاقات المتوترة بين الدولتين، على مدار أكثر من نصف قرن، منذ أن دعمت وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية الانقلاب العسكري على نظام مصدّق فـي العام 1953، والذي أعاد الشاه المعزول الى الحكم، وأيضاً منذ صارت عبارة «الموت لأميركا» الشعار المحبب فـي الشارع الإيراني.
وبالنظر الى السجل الحافل بالتوتر فـي العلاقات الثنائية، بدا أن إيران حريصة على عدم التسليم بصدق النوايا الأميركية، حتى بعد تطبيق الاتفاق النووي، حتى أن المرشد الأعلى للجمهورية الاسلامية السيد علي خامنئي لم ينتظر طويلاً حتى خرج بموقف جديد-قديم، اختزله بعبارات التحذير من «مكر أميركا». وهذا يعني بطبيعية الحال ان إيران، الخارجة من العزلة الدولية بشكل رسمي، لن تسلّم كل المفاتيح للولايات المتحدة، لا بل أن الخروج من العزلة الدولية المفروضة فرضاً من قبل الغرب، لن يصب فـي خانة العدو التاريخي بالتأكيد، ومن هنا يمكن فهم التوجه الإيراني الى تشبيك العلاقات الدولية اكثر مع قوى «يمكن الوثوق بها»، كروسيا والصين… وحتى الاتحاد الأوروبي.
وعلى المقلب الآخر، فإن الولايات المتحدة تدرك جيداً ان عودة إيران الى المجتمع الدولي، ورفع العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها، لا بد أن يستثمر سياسياً من قبل الجمهورية الاسلامية الراغبة فـي ان يكون لها حضوراً اقوى على الساحتين الاقليمية والدولية. ومن هنا، يمكن فهم الرسالة التي وجهها أوباما للإيرانيين، حتى بعد دخول التسوية النووية حيّز التنفـيذ، حين فرض عقوبات جديدة على طهران، ليس على خلفـية البرنامج النووي، وانما على خلفـية برنامجها للصواريخ الباليستية.
وداعاً للعقوبات
وعلى العموم، فإنّ الرسائل المتبادلة بين إيران والولايات المتحدة -ولعل اهمها احتجاز جنود البحرية الأميركية من قبل الإيرانيين وبعدها فرض عقوبات على البرنامج الصاروخي الإيراني- تعكسان بشكل واضح ان الجانبين قررا التموضع خلف حدود رسمها كل منهما فـي العلاقات الثنائية، بحيث يمكن القول ان ما جرى هو مجرّد تعديل فـي «قواعد الاشتباك» السياسية، أو ربما وضع أسس جديدة للعبة الاستراتيجيا بين الطرفـين.
ولا شك ان الطرفـين الإيراني والأميركي قد دخلا مرحلة «السلام النووي» بمكاسب متساوية، لا ضمن صيغة «لا غالب ولا مغلوب»، وفق ما يصوّره البعض، وإنما ضمن صيغة «كلانا رابح».
وبالنسبة الى إيران، التي أطلت عليها شمس الأحد 17 كانون الثاني «من دون عقوبات»، فإنّ دخول التسوية النووية حيز التنفـيذ يعني اعترافاً دولياً رسمياً بأنها باتت اللاعب الاساسي – وربما الأقوى- فـي الشرق الأوسط. وخلافاً لما يصوّر البعض، فإن هذا التحوّل يشكل انتصاراً للجناح الراديكالي فـي القيادة الإيرانية، بالرغم من نجومية التيار الإصلاحي، المتمثل بروحاني ووزير خارجيته محمد جواد ظريف، الذي بات «نجم» التسوية النووية، الذي يسارع الكل الى التقاط صور الـ«سيلفـي» معه.
وليست مبالغة أن تخرج صحيفة «افتاب» بعنوان يعيد الى الذاكرة «لحظة هروب الشاه» بعد انتصار الثورة الاسلامية، فـي معرض إشارتها الى أن «العقوبات قد غادرت إيران».
الجبهة الداخلية.. والقوة الناعمة
وبالرغم من الانتقادات العلنية التي اطلقها بعض المحافظين المقربين من خامنئي ازاء الاتفاق النووي، إلا أن التصريحات الكلامية لا تعكس بالضرورة ما يجول فـي ذهن المرشد الأعلى.
ولا شك أن خامنئي يدرك جيداً أن المستفـيد الأول من رفع العقوبات على إيران هو الحرس الثوري بالدرجة الأولى، خصوصاً انه يسيطر على معظم الصناعات التي ستستفـيد من تدفق العملة الصعبة والاستثمارات الجديدة.
ومن المرجح ايضاً ان يكون للحرس الثوري -الى جانب القوات شبه العسكرية المعروفة بـ«الباسيج»- دور أكبر فـي المشهد الإيراني الداخلي، خصوصاً بعد حديث المرشد الأعلى عن «المكر الأميركي»، الذي يستدعي أن تكون الجبهة الداخلية أكثر تماسكاً فـي مرحلة «السلام النووي»، خصوصاً أن الولايات المتحدة قد تعمد الى استخدام «القوة الناعمة» ضد الخصم الإيراني اللدود.
وثمة قناعة شبه مؤكدة لدى القيادة الإيرانية ان الولايات المتحدة ستستغل الاختلافات والصراعات على السلطة بين النخبة الإيرانية المحافظة والإصلاحية لكي تحقق فـي «السياسة الناعمة» -أو «الماكرة» بحسب تعبير المرشد الاعلى- ما لم تحققه فـي الضغوط السياسية والاقتصادية.
وفـي هذا السياق، فإن الولايات المتحدة تراهن على أن التقدم الاقتصادي الذي سيفرزه رفع العقوبات سيقوي نفوذ روحاني، بما يقود الى توازن داخلي بين الرئيس والمرشد. ولكن هذا الأمر دونه صعوبات كبيرة، فالقاصي والداني فـي إيران وخارجها يعلم أن الاتفاق النووي ما كان ليتم من دون مباركة خامنئي، وبأن الشرعية السياسية التي يكتسبها أي رئيس للجمهورية أو مسؤول فـي الدولة الإيرانية لا بد من أن يمر عبر بوابة المرشد الأعلى، الذي ما زالت الغالبية فـي الجمهورية الإسلامية تقدّر صلابته إزاء الضغوط الدولية، وترى فـيها نقطة قوة حفظت لـ«الأمة الإيرانية» كرامتها برغم كل الصعوبات.
والى جانب مكانته الداخلية، وسيطرته على القوة الضاربة المتمثلة فـي الحياة السياسية، فإنّ المرشد الاعلى ما زال قادراً على فرض وجهة نظره على الجميع، وإدارة الصراع الداخلي بين الاصلاحيين والمحافظين، وضبط ايقاعها.
مِن السابق لأوانه
ومن ناحية ثانية، فإنّ من السابق لأوانه القول إن التسوية النووية ستنتج «اوتوماتيكياً» تفاهمات سياسية بين إيران والولايات المتحدة لحل الأزمات الشرق أوسطية. ومع ذلك، فإن المرجح أن تسهم «قواعد الاشتباك» الجديدة فـي تطوير العلاقات السياسية بين الطرفـين، لتبقى العبرة فـي إمكانية التقدم فـي ملفات مشتعلة، تتقاطع المصالح، أو تتناقض، سواء فـي سوريا ولبنان والعراق أو فـي اليمن وأفغانستان.
ولعل أكثر الملفات صعوبة فـي هذا السياق، هو الملف السوري حيث لا يمكن الحديث عن تفاهمات إيرانية-أميركية، أقلّه على المدى المنظور، خصوصاً أن الميدان السوري، سواء عسكرياً أو سياسياً، قد بات تحت الحماية الروسية، وبالتالي تحت مظلة اللعبة الاستراتيجية الدولية التي تتجاوز الاستراتيجيات الاقليمية، وأيضاً لاختلاف الرؤية فـي الحل السياسي بين الولايات المتحدة، التي تفضل أن تخرج سوريا من حكم الرئيس بشار الأسد، وبين الجمهورية الاسلامية المتمسكة بتحالفها المبدئي مع النظام السوري.
وأما فـي العراق، فإنّ الوضع يبدو مختلفاً بعض الشيء. ولعل الملف العراقي تحديداً يشكل المقياس لمعرفة مدى التقارب/التعارض فـي المصالح الاقليمية بين إيران والولايات المتحدة، خصوصاً ان لدى الجانبين مصلحة مشتركة فـي قتال تنظيم «داعش»، ولكن تبقى المقاربة مختلفة سياسياً وعسكرياً، بين الجمهورية الاسلامية التي تعوّل على دور «الحشد الشعبي»، وبين الولايات المتحدة التي تفضل أن تكون المعركة ضد التنظيم المتشدد تحت عباءة حلفائها، سواء القوات الحكومية العراقية أو وحدات «البشمركة» الكردية أو العشائر السنّية.
والى جانب العراق، فإنّ افغانستان تعتبر الميدان الأبرز لإظهار امكانية التعاون بين الولايات المتحدة والجمهورية الاسلامية.
اما الملفات الأخرى، مثل اليمن ولبنان، فلا بد أن تنتظر معرفة التموضع السعودي فـي مرحلة «السلام النووي» ومدى قدرة المملكة النفطية على الخروج ولو بمكسب بسيط من الوضع الاقليمي الجديد.
ومع ذلك، فإن المؤشرات بالنسبة الى السعودية لا تبدو مطمئنة، فالتصعيد الذي عمدت الى تفجيره فـي العلاقات مع إيران، بعد اعدام الشيخ النمر، املاً بالحصول على دعم الحليف الأميركي، باء بالفشل، بعدما تحسبت الجمهورية الاسلامية للفخ المنصوب، فعمدت الى احتواء التوتر بدلاً من تأجيجه، فـي المرحلة الحرجة التي فصلت بين توقيع اتفاق فـيينا ودخول التسوية النووية حيز التنفـيذ.
المأزق السعودي
ومن جهة ثانية، فإن رفع العقوبات عن إيران يعني بالدرجة الاولى عودة النفط الإيراني الى التدفق فـي الاسواق العالمية، وهو ما سيفاقم من المشاكل التي بدأت تواجهها المملكة النفطية على المستوى الاقتصادي، بعدما أطلقت النار بين قدميها، حين قررت خوض حرب الأسعار لتقويض الجمهورية الإسلامية.
ولعل الرهان السعودي الاخير على عدم الخروج من «مولد» التسوية النووية بدون «حمّص»، وفقاً للمثل المصري الشعبي الشهير، يبقى محاولة إقامة تحالف اقليمي (سنّي)، قاعدته الرياض-أنقرة، لاظهار انها ما زالت تملك هامش تحرك واسع فـي الشرق الأوسط.
ولكن المؤشرات الأولية لنجاعة هذا الخيار ليست مطمئنة لدى حكام آل سعود، خصوصاً بعد فشل تجربة التحالف ضد الحوثيين فـي اليمن، ومن بعده التحالف الاسلامي ضد الإرهاب… وأيضاً بعد إخفاق الرياض فـي الحصول على دعم كامل من قبل الدول العربية، بما فـي ذلك الخليجية، فـي الأزمة الأخيرة مع إيران، وهو ما عكسه قرار الدول الخليجية -باستثناء البحرين- التعامل مع حادثتي اقتحام السفارة والقنصلية فـي طهران ومشهد بتخفـيض العلاقات مع الجمهورية الإسلامية، وليس قطعها كما كانت السعودية تأمل.
ومن الواضح أن ثمة أطرافاً عدّة فـي الشرق الاوسط تأمل فـي ان ترث الدور السعودي، ولعل أبرز تلك الاطراف إمارة قطر، التي نسجت بدورها علاقات متجددة مع تركيا -آخر الحلفاء المحتملين للسعودية- والتي اقتحمت بقوة المشهد اللبناني، بمباركتها للتحالف المسيحي الجديد فـي هذا البلد (ميشال عون وسمير جعجع)، لتقرع جرس إنذار فـي رياض بأن ثمة من يسعى لمقارعة آل سعود فـي آخر الجبهات التي يمتلكون فـيها بعض النفوذ.
ضربة اقتصادية للسعودية
نشر المدون السعودي «مجتهد»، ما قال إنه تقرير للاستخبارات حول تأثير رفع العقوبات الدولية عن إيران على السعودية واقتصادها.
واشار التقرير الى ان رفع العقوبات يعني أسترداد إيران لجزء من أرصدتها المجمدة مما يعطيها زخما للتحمل، بحيث تكون قادرة على زيادة مليون برميل لانتاجها اليومي مما يهوي بالاسعار، فـي حين ان الانفتاح الاستثماري الهائل لإيران سيجعلها أقدر على تحمل هبوط أسعار النفط.
ووفقاً للتقرير فإن ذلك سيرتب نتائج قاسية على السعودية، من ضمنها هبوط التصنيف السيادي للاقتصاد والذي يصدر بشكل دوري من المراكز الاقتصادية العالمية، واضطرار المملكة النفطية للاقتراض بفوائد عالية نسبياً لأن هبوط التصنيف السيادي يرفع الفائدة، والسحب مما تبقى من الاحتياطي المالي بقيمة أقل من قيمته بسبب صعوبة تسييله بقيمته، وازدياد الضغوط على الريال السعودي، ما سيدفع مؤسسة النقد الى رفع أسعار الفائدة لرفع الطلب على العملة المحلية، والدفاع عن العملة المحلية لحمايتها من المضاربات وذلك ببيع الدولار مقابل الريال. ويضيف التقرير الى سلسلة الأضرار المتوقعة، انكماش لا يمكن تلافـيه للاقتصاد نتيجة تقليص المصروفات على المشاريع المحلية، والحاق الخسائر بالقطاع الخاص وتسريح المزيد من الموظفـين بحجة إعادة الهيكلة ومواجهة الظروف، وتراجع الإقبال على سوق الأوراق المالية (الأسهم والسندات)، ما يزيد وتيرة التردي الاقتصادي، وتسييل الصناديق السيادية لجزء من أسهمها فـي السوق لسد جزء من العجز المتصاعد فـي الموازنة، فضلاً عن تضخم الكتلة النقدية المعروضة بالريال مما يزيد انخفاض سعره أمام العملات الصعبة وخاصة الدولار.
ويرى معدو التقرير أن الوضع الاقتصادي مرشح للمزيد من التدهور حيث لا تلوح فـي الأفق محاولات لاحتواء الفائض النفطي المتصاعد برفع إنتاج إيران والعراق وروسيا. ولا مجال يبدو للتفاهم مع الدول المنتجة خارج «أوبك» للسيطرة على فائض المعروض من النفط، ليخلصوا الى القول ان معركة كسر العظم تبدو خاسرة لأن الأطراف الأخرى فـي التحدي لديها قدرة أكبر على التحمل.
Leave a Reply