مريم شهاب
قبل حوادث 11 أيلول 2001، بدأت العمل في قسم سلامة البناء في البلدية. وفي إحدى زوايا المكتب وُضِع صندوق كرتوني بإهمال على الطاولة. أحد المفتشين راق له أن يغيظني ويسألني عما يحتوي ذاك الصندوق، ببساطة أجبته: لا أعرف. وبكل خبث قال لي: ربما فيه قنبلة وضعها أحد الإرهابيين لتفجير المكتب.
أحسست بالإهانة وأنه يوجه لي تهمة جاهزة بالإرهاب لأني عربية ومسلمة ومحجّبة وأتكلم بإنكليزية مكسّرة ولَكنَة غير مرغوبة. كان الوقت مناسباً والظروف مؤاتية لذلك الرجل كي يظهر غضبه وحنقه ويفرغ كل ما روجته وسائل الإعلام وهوليوود ضد العرب والمسلمين –هذا قبل أن «تتوب» هوليوود مؤخراً عن عنصريتها.
وجدت نفسي غير قادرة على تمالك نفسي والرد عليه. لم أشعر إلّا ودموعي انهمرت ودخلت في نوبة نحيب حد الاختناق.
بعد ذلك، تعلمت الدرس. يجب أن أتعلم الإنكليزية وأتقنها حتى فيما بعد إذا صادفني متعصب أحمق مثل ذلك المفتّش، تكون لدي الثقة والقدرة لأرد عليه وأضعه عند حده. تمنيتُ أن أقول له إننا أهل الحضارة، نقدس الحياة ونحترم القانون، واعتداءات 11 أيلول لا تمت للعرب والمسلمين بصلة.
كانت تلك الحادثة سبباً للتعرف شخصياً على كبير المفتشين والمسؤول العام عن القسم، السيد بوب سكوت، الذي دعاني إلى مكتبه فيما بعد لأشرح له سبب بكائي. ابتسم بعد أن أنصت إلي بهدوء، وقال البكاء دليل ضعف، الثقة هي القوة، تعلّمي وتعلّمي ولا تهدري دموعك وطاقتك بالتفاهات.
كان السيد سكوت، رغم علمه الغزير ومركزه الكبير، رجلاً سمحاً وبسيطاً وشديد التواضع، ممن وصفهم النبي محمد «الذين يألفون ويُؤلَفُون»، تقابله لأول مرة فتشعر بأنك تعرفه منذ سنوات. أناقته في الكلام والمظهر والالتزام بالوقت والعمل وعدم هدر الطاقة في صغائر الأمور، كان يمنحني جرعة من مقويات الثقة بالنفس، في زمن انتشرت فيه السطحية حتى أصبحت عنواناً للتملق والفساد.
أحترم فيه الدعوة للمحبة والتسامح والثقافة والشغف بالتاريخ وارتباطه بالواقع. كنت أجده سنداً وعوناً في كل فترة صعبة من حياتي العملية والشخصية. حين تقاعد، قال لي: أود أن أعطيكِ مسبحة لتصلي وتؤمني بالصلاة، الصلاة ليست تفاهات.
الأسبوع الماضي وفي عيد الأب اتصلت به… نبرة صوته الحزينة لم تطمئني، ولأول مرة لم أجد راحة وطمأنينة في كلماته.
لم يتمن بوب سكوت أن يعيش إلى زمنٍ يخرج الجهل العنصري بين البيض والسود من قمقم التعصب الأهوج ويروج له الإعلام الموتور وكأنه صار العلامة الفارقة للمجتمع الأميركي.
الشرخ العرقي نافر ومؤلم بين الأميركي الأسود والأبيض، على الأقل هذا ما تظهره الصورة التي يروجها الإعلام اليوم، عن أميركا. حبذا لو كانت تلك المظاهرات، تدعو لتحسين التعليم والوظائف واحترام القانون.. لكنه بدلاً من ذلك يريد مروّجوها الهدم، وإزالة إرث عريق بناه مؤسسو دولة القانون والحريات الرائدة في العالم وربما في تاريخ البشرية، الدولة التي نضجت وتطورت وتخلصت من التمييز بين أبيض وأسود.
ما نفع الهدم والفوضى والكسل والنعيق المستمر والشكوى والتذمر من التمييز العنصري؟ ألم تروا ما حلّ بمدينة ديترويت، التي كانت ملقبة بـ«باريس الغرب»، وغيرها من المدن الأميركية العريقة، قبل أن تحرقها الأجندات السياسية وتحولها إلى تلة ركام من الإهمال والكسل والسكر والعربدة والمخدرات وغياب القانون، ليقبع زعماء الحقوق المدنية على تلّها، كأبطال للحريات والمساواة.
أخشى ما يخشاه السيد سكوت، هو أن تكون نهاية الولايات المتحدة على أيدي الفوضويين الحمقى الذين يظنون أن مجدهم يبدأ بمحو تاريخ الأجداد وتحطيم تماثيل مؤسسي ورواد تاريخ أميركا العظيم.
Leave a Reply