نبيل هيثم
المأساة تتكرر مرّة أخرى…
لكأن أحداً من الإدارات الاميركية المتعاقبة منذ عهد جيمي كارتر حتى عهد باراك اوباما لم يقرأ رواية «فرانكنشتاين»، ولم يشاهد الأفلام التي استوحت هذه القصة، والتي أخرج ستوارت بيتي آخر نسخة منها في مطلع العام 2014.
بعيداً عن نظرية المؤامرة، ثمت اجماع بين الكتاب السياسيين، منذ ثمانينات القرن الماضي وحتى يومنا هذا، على ان الإدارة الاميركية هي التي خلقت «فرانكنشتاين» الجهادي، بداية من «الحرب المقدسة ضد الالحاد» في افغانستان في اواخر السبعينات، وصولاً إلى قرار تسليح «الثورة السورية» الذي تمخّض فولد لنا تنظيم «داعش» و«جبهة النصرة».
ولعلّ الغرابة في الموضوع تكمن في ان الإدارات الاميركية المتعاقبة لم تتنبّه إلى ان تلك المأساة لا تقتصر على الشعوب الأخرى، التي يفترض صنّاع القرار في الولايات المتحدة ان ارواح ابنائها يمكن ان تكون قرباناً على مذبح الامبراطورية، بل صارت تصيب الشعب الأميركي نفسه، الذي قتل وحش «القاعدة» الآلاف من ابنائه في 11 ايلول 2001، فيما يتوعد «داعش» اليوم بضحايا جدد، مفتتحاً وعيده هذا بذبح الصحافي جيمس فولي!
في العام 2010، وفيما كان باراك اوباما يزف الى شعبه خبر انسحاب آخر جندي من العراق، كانت التقارير الغربية، الاستخباراتية والسياسية والصحافية، تفيد بأن «الحرب على الإرهاب» تقترب من خواتيمها السعيدة. وجاء مقتل اسامة بن لادن في أيار العام 2011، في خضم المرحلة الاولى من «الربيع العربي»، الذي اشاع الآمال بالحرية والديموقراطية لشعوب الوطن العربي – أقلّه في مصر وتونس – ليعزز آمالاً أخرى بأن الارهاب «الجهادي» يضمحل، بعدما صرعه نضال الشعوب العربية، بما قدّمته من بدائل تحررية كان من شأنها أن تعيد غلق «صندوق باندورا» الأسطوري على شرور «القاعدة» واخواتها. لكن ما حدث كان النقيض تماماً، فقد سهّلت الإدارة الاميركية وصول «الإخوان المسلمين» إلى الحكم في مصر، وساهمت بأشكال عدّة في انزلاق سوريا وليبيا إلى حروب اهلية أفرزت تنظيمات متشددة على شاكلة «داعش» و«جبهة النصرة» وغيرهما.
وفي الحالة المصرية، لم تكترث الإدارة الاميركية بالأسس الايديولوجية والتنظيمية التي يمكن من خلالها فهم الوجهة التي يمكن ان تسير اليها جماعة «الإخوان المسلمين»، ولعلّ ابرزها رسالة المؤتمر الخامس للإمام المؤسس حسن البنا، وتنظيرات «العزلة المجتمعية» أو «جاهلية القرن العشرين» لسيد قطب، والتي انبثقت منها تنظيمات التكفير والهجرة والسلفية الجهادية، لا بل ان إدارة اوباما تجاهلت سيطرة التيار القطبي على مكتب الارشاد في مصر، بما مثله ذلك من وأد لبعض المحاولات الإصلاحية، ولتصبح بذلك الاسس التي تقوم عليها الجماعية ثالوث: الخلافة، الاستاذية، ونشر الإسلام بالقوة، وهو الثالوث الذي يتقاطع عنده «الإخوان» و«داعش».
اما في ليبيا، وبعد ذلك في سوريا، فقد اهملت الإدارة الاميركية الخصوصيات السياسية والبنى الاجتماعية القائمة في هذين البلدين، فمارست لعبة خطيرة، عنوانها العريض «العسكرة»، وراحت تقدّم «مباشرة أو عبر وكلاء اقليميين مثل قطر والسعودية» شتى أشكال الدعم العسكري للفصائل المناوئة للنظام هنا وهناك، فيما اخذت تسهّل او تغض الطرف عن تدفق «الجهاديين»، لتتكرر بذلك تجربة افغانستان في بلاد الشام والمغرب العربي.
هكذا أعادت الادارة الاميركية خلق «فرانكنشتاين» الجهادي، فانفتح «صندوق باندورا» مجدداً، لتخرج منه فلول الارهاب بتركيبة أكثر تعقيداً، من ابرز تجلياتها اليوم تنظيم «داعش»، الذي فرض مؤخراً معادلته على الجميع، بعدما اتسعت رقعة خطره من تخوم اقليم كردستان في العراق، الى قلب ولاية بورنو في نيجيريا.
اليوم، تسعى الولايات المتحدة الاميركية الى تكوين تحالف اقليمي- دولي ضد الإرهاب «الداعشي»، في ما يعيد التذكير بتجربة «الحرب على الارهاب» بعد 11 ايلول، وما رافقها من معارك وويلات على البشرية، كان يمكن تجنبها أو على الاقل منع تكرارها.
ومن أجل هذ التحالف الجديد، باتت الإدارة الاميركية مستعدة لتجاوز كافة الخطوط الحمر التي وضعتها بنفسها، بدءاً بتوسل المساعدة من ايران، سواء عبر التصريحات الصريحة والضمنية، أو عبر الاتصالات القائمة من خلال القنوات الديبلوماسية، مروراً بفتح مخازن السلاح لقوات البشمركة الطامحة قيادتها للاستقلال، وصولاً إلى ارسال اشارات حول امكانية التوصل الى تفاهمات مع القيادة السورية لخوض الحرب الكونية على «داعش». على الرغم من الاعلان الاخير للبيت الابيض بان واشنطن ترفض التنسيق مع نظام بشار الاسد لمحاربة داعش.
ولعلّ تشكيل تحالف اقليمي - دولي من هذا القبيل يمثل احد الشروط الأساسية لدحر التنظيم المتشدد. وإذا كان صناع القرار في الإدارة الاميركية قد استلهموا الفكر «الميكيافيللي» في مقاربتهم لهذا التحالف، فلعلّ بعضهم يغوص اكثر في كتاب «الامير» لسبر أغوار تلك «الميكيافيلية»، ذلك ان تحالفاً من هذا النوع، لن يكون من السهل بناؤه، في ظل التناقضات الحادة بين أطراف اقليمية ودولية عدّة يفترض ان تكون منخرطة فيه.
ومن المؤكد ان تحالفاً من هذا النوع لا يمكن ان يتشكل ما لم تقدّم الولايات المتحدة والغرب مبادرة جدية تجاه روسيا، وهو امر يتوقف على تراجع حلف الاطلسي عن خطته التوسعية في اوكرانيا، او على الاقل تجميد هذا الصراع، الى حين، حتى يكون ممكناً التوصل الى تفاهمات حول المعركة المشتركة في الشرق الاوسط.
ومن المؤكد كذلك، ان هذا التحالف لا يمكن ان يتشكل من دون الاخذ في الحسبان ايران كقوة شريكة في المعركة ضد «داعش»، وهو امر يتطلب ايجاد مخرج للملف النووي الايراني قبل انتهاء المهلة المحددة للتفاوض في تشرين الأول المقبل، وكذلك التوصل الى تفاهمات مع الجمهورية الإسلامية بشأن سوريا، على غرار التفاهمات التي سهلت التوصل الى حل للأزمة الحكومية في العراق. وانطلاقاً من تلك الضرورة، يمكن على سبيل المثال تفسير الزيارة التي قام بها مساعد وزير الخارجية الايراني حسين عبد اللهيان للسعودية، وكذلك اعلان وزير الخارجية السوري وليد المعلم ان دمشق مستعدة للتعاون مع اي جهد لدحر الارهاب، وذلك بعد يوم واحد من الاجتماع الوزاري العربي الخماسي في جدّة لدول «اصدقاء سوريا» (مصر، السعودية، الامارات، البحرين، وقطر)، الذي ناقش خطر «داعش» على المنطقة العربية.
واذا كانت النيات المعلنة من قبل ايران وسوريا تمثل بداية جيدة لتوحيد جهود مواجهة «داعش»، فإن ثمة عقد يتطلب حلها جهوداً جبارة، فقد كشف اجتماع جدة مدى التعقيدات التي تواجه الجهود الاميركية لتشكيل التحالف الكوني ضد الارهاب، وحجم التناقضات العربية-العربية، فالتوتر ما زال قائماً بين السعودية، المتهمة منذ البداية بدعم الجماعات الاسلامية، والتي تحاول اليوم، كما يبدو، القيام بانعطافة في هذا الإطار بعدما اقترب خطر «داعش» من حدودها، وبين قطر، التي ما زالت تطمح الى استثمار البترودولار لتحقيق نفوذ اقليمي، سواء عبر دعم المجموعات التكفيرية بما في ذلك «داعش»، او عبر تقويض نظام المشير عبد الفتاح السيسي، بعدما انهت «ثورة 30 يونيو» حكم «الإخوان المسلمين»، ووجهت ضربة لمصالح الإمارة النفطية في مصر.
ويبدو ان حل الصراع بين التحالف المصري- السعودي - الاماراتي وبين قطر، فالأخيرة ما زالت عاجزة عن انهاء الازمة الديبلوماسية القائمة بينها وبين جيرانها الخليجيين، الذين يلوحون منذ اسبوع باجراءات تصعيدية ما لم تتراجع الدوحة عن سياساتها الحالية، في حين بدأ الصراع بين قطر ومصر يتخذ منحى اكثر سخونة في ليبيا، خصوصاً بعد الكشف عن قيام القاهرة وابو ظبي بتوجيه ضربات جوية ضد مواقع الميليشيات الليبية المدعومة عسكرياً ومالياً من قطر، علماً بأن تلك الضربات، وكما اكد مسؤولون اميركيون، قد تمت من دون علم الولايات المتحدة، وتحوّل معها الصراع في ليبيا من حرب بالوكالة الى تدخل مباشر.
ووسط هذه التناقضات المستعصية، تبرز عقدة اخرى، عنوانها تركيا، الدولة العضو في حلف شمال الاطلسي، والتي لم يعد يخفى على احد دعمها للقوى الجهادية المتشددة، بما في ذلك «داعش» - او على الاقل تقاطع مصالحها مع تلك الجماعات - ولا يخفى على احد ان جزءاً كبيراً من تمويل «داعش» يأتي بفعل عمليات بيع النفط، التي تتم عبر الاراضي التركية، والشكوك التي تحوم حول سياسة رجب طيب اردوغان تجاه الصراع القائم، وهي شكوك تعززت بعد فوز اردوغان برئاسة الجمهورية، وهو ما اعتبرته فصائل جهادية عدّة انتصاراً لها!
كان ملفتاً غياب تركيا، اللاعب الرئيسي في مجموعة «اصدقاء سوريا»، عن اجتماع جدة، بسبب توتر علاقاتها مع السعودية والامارات نظراً لاتهامها بدعمها حركة الاخوان المسلمين في مصر وحركة «حماس» في قطاع غزة.
وبرغم تلك التعقيدات، يبدو ان الولايات المتحدة لا تملك سوى خياراً واحداً، وهو المضي قدماً في تشكيل التحالف المذكور، بعدما بات التهديد الجهادي قاب قوسين او ادنى من ولوج الغرب، بأشكال عدة، ولذلك يتوقع أن تشهد المرحلة المقبلة حراكاً مكثفاً، بغية مواجهة «الخلافة»، التي استطاعت ان تحرك كافة ملفات المنطقة دفعة واحدة.
ولكن في حال سلمنا جدلاً بقدرة الولايات المتحدة على تسوية كل الملفات الاقليمية التي تحركت دفعة واحدة، فإن تشكيل التحالف الاقليمي-الدولي لن يكون سوى نقطة بداية لحرب ربما تطول اكثر مما توقع وزير الدفاع الاميركي تشاك هايغل ورئيس اركانه مايكل ديمبسي، خصوصاً ان التجارب الماضية في العراق وافغانستان، لا تشي بأن الحرب على دولة ابي بكر البغدادي ستضع أوزارها سريعاً بالقضاء على «الخلافة»، فالوحش الذي ولد على ايدي جهاز الاستخبارات المركزية في نهاية السبعينيات من القرن المنصرم نما سريعاً واشتد عوده طوال السنوات الماضية، حتى باتت له «دولة»، لا بل «خلافة»، وصار يفرض اجندته على الجميع، ويستدرج الولايات المتحدة من العزلة التي تسعى وراءها منذ انتخاب اوباما، إلى حرب استنزاف في مستنقعات الشرق الاوسط، ولا يبدو ان اعادته الى «صندوق باندورا»، وحبسه في داخله، سيكون مهمة سهلة، لا بل يمكن القول ان الولايات المتحدة ودول العالم قاطبة تعيش اليوم كابوس المشهد الاخير من رواية «فرانكنشتاين»!
Leave a Reply