سجلٌ جديد من خرق حقوق الإنسان يُضاف إلى الولايات المتحدة التي تدَّعي نشر الديمقراطية والعدالة والحقوق المدنية فـي العالم خصوصاً فـي الشرق الأوسط والصين وروسيا وغيرها، بينما يستعر الصراع العرقي فـي شوارعها وترتكب أجهزتها الاستخباراتية والأمنية انتهاكات واساءات لا تحصل إلا فـي الأنظمة الديكتاتورية وجمهوريات الموز.
فقد أصدرت اللجنة الخاصة للاستخبارات التابعة لمجلس الشيوخ الأميركي تقريراً عن «أساليب الاستجواب المُحسَّن» فـي وكالة الإستخبارات المركزية «سي اي أي»، وأساليب الاستجواب المحسَّن هي جملة دبلوماسية ملطَّفة ومنمَّقة تخفـي حقيقة بشعة هي التعذيب. ولم يتمكن التقرير، رغم قدراته اللغوية الفائقة، من إخفاء الحقائق التي كشفت عن ارتكاب الوكالة لأبشع أساليب التعذيب الشنيع، والتغطية والتستر على ذلك، وسوء الإدارة ونشر الأكاذيب والتضليل المتعمد للجمهور.
التقرير الذي صدر يوم الثلاثاء الماضي هو حصيلة جهد استغرق ثلاث سنوات من التحقيق المستمر لمجلس الشيوخ حول برامج وكالة الإستخبارات المركزية بعد فترة هجمات أيلول (سبتمبر) الإرهابية. لكن جهود المشرعين قد تذهب أدراج الرياح إذا لم تتحرك إدارة أوباما وتقدم للعدالة أولئك الذين قاموا بالتعذيب والذين منحوا التفويض لهذه الأساليب البربرية التي يندى لها الجبين!
«وكالة الإستخبارات المركزية» كانت تكذب حول مدى وفعالية قيامها بتعذيب المعتقلين فـي مواقع سرية فـي جميع أنحاء العالم. التقنيات المستخدمة من قبل الوكالة شملت الإيهام بالغرق (ووتر بوردينغ)، وإجبار المعتقلين على الوقوف على أرجل مكسورة، والحرمان المفرط من النوم الذي كان يستمر فـي بعض الأحيان لأكثر من ١٨٠ ساعة، والاغتصاب، وسد المثانة، وتهديد أفراد الأسرة، وفـي النهاية القيام بالقتل المتعمَّد للمشتبه بهم. فـي إحدى الحالات توفـي أحد المعتقلين جراء انخفاض جذري لحرارة جسمه بعد وضعه شبه عارٍ فـي زنزانة باردة جداً.
وخلافاً لمزاعم الـ «سي اي أي» ، بأن التعذيب لم يؤدِّ إلى الحصول على معلومات استخباراتية جديدة ذات قيمة أو يمنع الهجمات على الولايات المتحدة، وفقاً للتقرير. ولسبب غير مفهوم كانت الوكالة تقوم بتوظيف أشخاص ومتعاقدين عديمي الخبرة، بمن فـيهم محققون يعانون من مشاكل الغضب السريع.
حتى مدير وكالة الاستخبارات المركزية، مايكل هايدن، كذب بشأن أعداد المعتقلين لدى الوكالة عندما أدلى بشهادته أمام لجنة مجلس الشيوخ فـي عام ٢٠٠٨ وقال إنَّ الوكالة تحتجز ما يقل عن ١٠٠ من المشتبه بهم فقط، ولكن التقرير كشف أن ١١٩ شخصاً على الأقل اعتقلوا من قبل الوكالة فـي ذلك الوقت. كما كشف التقرير أيضاً أن ٢٥ معتقلاً على الأقل اعتقلتهم
الـ «سي اي أي» ظلماً وعدواناً.
فإذا كان هايدن لا يعرف العدد فتلك مصيبة، وإذا كان يعلم فتلك مصيبة أعظم!
إنَّ على الجناة الذين أعطوا الأوامر بالتعذيب أنْ يخضعوا للمحاكمة حتى لو كانوا يقطنون فـي البيت الأبيض. فالتعذيب غير قانوني وفقاً للقانون الدولي وقانون الولايات المتحدة التي تحاضر على العالم بالعفة والحقوق المدنية. ويحظر الدستور الأميركي فـي تعديله الثامن بوضوح إنزال العقوبة القاسية وغير العادية ضد الإنسان. كما أنَّ اتفاقيات جنيف، التي صدَّقت عليها الولايات المتحدة فـي عام ١٨٨٢، تحرم إساءة معاملة أسرى الحرب.
وقالت السناتورة دايان فاينشتاين (ديمقراطية – كاليفورنيا)، رئيسة لجنة الإستخبارات فـي مجلس الشيوخ والتي أشرفت على التحقيق «إنَّ أساليب الاستجواب الوحشية لوكالة الاستخبارات المركزية هي انتهاك صارخ للقانون الأميركي، وللالتزامات الناشئة عن المعاهدات الدولية ولقيمنا». وأضافت أن التقرير ينبغي أن يكون بمثابة «تحذير للمستقبل. ونحن لا يمكن أن نسمح مرة أخرى بنسيان التاريخ ونكرر الأخطاء المخزية السابقة».
ولكن مجرد صدور التقرير لا يعني أننا سوف نتعلم من دروس الماضي. ومهما حذرت فاينشتاين إذا لم يمتثل المسؤولون الذين ارتكبوا هذه الجرائم للمحاكمة والعقاب سيعيد التاريخ نفسه وستتكرر هذه الإساءات. فعدم توجيه لائحة اتهام وإدانة ضد المسؤولين عن التعذيب سوف يبعث رسالة إلى وكالات الاستخبارات والوكالات الأمنية الاخرى المولجة بتنفـيذ القانون، بأنها يمكنها أنْ تفلت من انتهاك حقوق الإنسان باسم وذريعة الأمن القومي.
وكما قال المدير التنفـيذي للجنة حقوق الانسان «هيومن رايتس ووتش»، كينيث روث « ما لم تؤدِّ عملية قول الحقيقة الهامة هذه لملاحقة المسؤولين قانونياً، سيبقى التعذيب خياراً سياسياً للرؤساء فـي المستقبل».
لكن للأسف لا يبدو أنَّ هذا الرئيس ولا وزارة عدله مهتمة بإحقاق العدالة أو المساءلة.
صحيح أنَّ أوباما انتقد بخجل تصرفات وكالة الاستخبارات المركزية من ناحية تعارضها «مع قيمنا» ولكنه لم يشِر إلى الانتهاكات والخروقات على أنها تعذيب. فعلته هذه تعني انه وجد العذر لموظفـي الوكالة وربت على ظهورهم بعد صدور التقرير. هذا الرئيس أكبر مخيِّب للآمال فـي التاريخ!
ففـي مقابلة مع «تيلموندو» يوم الثلاثاء قال أوباما «اعتقد بشكل عام أنَّ الرجال والنساء فـي وكالة الاستخبارات المركزية يقومون بعمل صعب حقاً ويؤدون عملهم بشكل جيد». وأضاف «لكن فـي أعقاب ١١ أيلول وفـي خضم صدمة وطنية عارمة، وعدم اليقين بشأن ما إذا كانت هذه الهجمات ستتكرر، ما هو واضح هو أن وكالة المخابرات المركزية قامت بإعداد شيء بسرعة فائقة دون الكثير من التدبر والتفكير بحجم التداعيات».
حتى السناتور الجمهوري جون ماكين، كان أشد قسوة فـي نقده للتعذيب من أوباما، حيث قال، وهو سجين حرب سابق نجا هو نفسه من التعذيب، قال من على منبر مجلس الشيوخ يوم الثلاثاء الماضي أن الانتهاكات «لطَّخَتْ شرفنا القومي».
النتائج التي توصل إليها التقرير هي مؤسفة على الرغم من أنها لم تفاجئ الكثير من الناس. ولكن حقيقة أن وزارة العدل لن تحاكم المسؤولين فـي إدارة بوش الذين أذنوا لهذه البرامج المشينة، هي وصمة عار على نظامنا القانوني والقضائي. هذا القضاء يُحاكم رسمية عودة، ضحية التعذيب الوحشي الإسرائيلي، لكنه يغض الطرف عن التعذيب الاكثر وحشيةً داخل وكالة حكومية ثم يُعاقب الدول المارقة بسبب سجلات حقوق الانسان المزرية فـيها، وبعد ذلك يتساءل رؤساء أميركا: لماذا يكرهوننا؟! .
نحن نعيش فـي نظام يحمي القوي ويهجر الضعفاء ويتغاضى عن جرائم الأقوياء ويضرب بلا رحمة المعدمين الذين لا يحملون امتيازات ويطبق القانون بشكل انتقائي، فقط عندما تستفـيد بعض مراكز القوى والسلطة.
ولهذا السبب لم يحاكم الشرطي دانيال بانتاليو بتهمة خنق المواطن الأعزل أريك غارنر وعلى مرأى من الكاميرا وعيون الملايين من البشر، ولكن تروي ديفـيس أعدِم السنة الماضية فـي ولاية جورجيا بجريمة لم يرتكبها. وكالة المخابرات المركزية وإدارة بوش تفلت من جرائم التعذيب بينما أدينت رسمية عودة لتعرضها للتعذيب قبل ٤٥ عاماً. هذا هو العدل على الطريقة الأميركية!
Leave a Reply