من يرد على الهاتف فـي البيت الأبيض العام القادم؟
النصر الثمين الذي أحرزته المرشحة الديمقراطية هيلاري كلينتون على منافسها باراك أوباما في ولايات أوهايو وتكساس ورود آيلاند يوم الثلاثاء الماضي أعاد السيدة الأميركية الاولى السابقة إلى قلب الخارطة الإنتخابية، بعدما نجح منافسها في دفعها بقوة إلى حدود هذه الخارطة بتحقيقه أحد عشر فوزاً متتاليا على مدى الجولات الإنتخابية التي أعقبت «الثلاثاء الكبير».
تكمن أهمية هذا النصر الذي كانت تحتاج إليه كلينتون بقوة بعد سلسلة النكسات التي منيت بها، في كونه حصل في ولايتين تعكسان ثقلاً في التصويت الشعبي يؤشر في العادة إلى المنحى الذي ستسلكه المعركة الإنتخابية بمرحلتيها التمهيدية والنهائية.
ويمكن للمرشحة كلينتون التي لا تزال تتخلف عن أوباما بفارق من المندوبين يقارب المئة أن تحاجج بأنها، ورغم تقدم منافسها عليها بعدد أصوات المندوبين حتى الآن، إلا أن حجم التأييد الشعبي لها يُوازي وقد يتقدم على الحجم الذي يحظى به منافسها، إنطلاقاً من فوزها بولايات كبيرة مثل كاليفورنيا ونيويورك وتكساس وأوهايو (وفلوريدا وميشيغن) رغم أن حسم أصوات مندوبي هاتين الولاتين الأخيرتين يحتاج إلى فترة إنتظار، نظراً لمخالفتهما أجندة الحزب بإجرائهما الإنتخابات الأولية في يناير الماضي بدلاً من الثلاثاء الكبير في الخامس من شباط (فبراير).
والواضح أن الفوز الثمين الذي حققته السناتور كلينتون في أوهايو وتكساس ورود آيلاند لم يؤد فقط إلى إنعاش حملتها الإنتخابية التي كانت على شفا الإنهيار، بل خوّلها التحدث بنبرة الواثقة من رسوّ ترشيح الحزب الديمقراطي عليها، ملمحة إلى إمكانية إختيار أوباما كنائب للرئيس حينما تحين لحظة المساومات في المؤتمر الوطني للحزب في آب (أغسطس) القادم. وبرزت ثقة كلينتون بإمكانية فوزها بترشيح الحزب عندما قالت «إن ناخبي أوهايو قالوا بوضوح يجب أن أكون أنا»، في إشارة أيضاً إلى الدور المحوري الذي تلعبه ولاية أوهايو في تقرير مسار الحملة الرئاسية ونتائجها، والتي حسم فيها الرئيس جورج بوش الإبن المعركة ضد منافسه الديمقراطي جون كيري في العام 2005.
وثمة إحتمالات قوية بأن تتمخض نتائج السباق التمهيدي بين كلينتون وأوباما عن نتائج شديدة التقارب من حيث عدد المندوبين المؤيدين لكل منهما، وحيث لا يزال الغموض يكتنف مواقف «المندوبين الكبار» البالغ عددهم 790 مندوباً يشكلون قادة الحزب «المستقلين» والذين من شأنهم أن يشكلوا عامل الحسم بين المرشحين في خلال المؤتمر.
ويبدو أن السيدة الأولى السابقة تراهن على خشية الأميركيين من «قلة خبرة» منافسها أوباما خصوصاً في المسائل المتعلقة بالسياسة الخارجية والأزمات الكبرى الدولية المرتبطة بهذه السياسة وطرق إدارتها، لكن رغبة التغيير الواضحة التي تجري في شرايين الأجيال الأميركية الشابة والتي نجح المرشح أوباما بكاريزميته وخطابه المتماسك ونبرته الواعدة أن يلتقطها ويبني على وقعها زخم حملته الإنتخابية التي حقق فيها إنتصارات أدهشت العالم قبل أن تدهش الأميركيين أنفسهم، هذه الرغبة قد لا تجد ترجمة لها في تحقيق أول إفريقي أميركي إنجاز الوصول إلى البيت الأبيض، إذا ما قُيض له أن يفوز بترشيح حزبه، وذلك لإعتبارات تتصل بنفوذ المؤسسة المنتجة للرؤساء الأميركيين وهي مؤسسة النخبة البيضاء المسيطرة على مفترق الطرق المؤدي إلى البيت الأبيض. وإذا كان أوباما لا يفتقر إلى «فخامة» المؤهل العلمي كونه من خريجي جامعة هارفارد في المحاماة إلا أن الشرطين الضروريين الآخرين وهما شرطا اللون (الأبيض) والمعتقد الديني (البروتستانتي) لا يتوفر أحدهما في أوباما، ويبدو الثاني «منتقصاً»، كون أوباما سليل عائلة إفريقية مسلمة يجري من وقت إلى آخر تسليط الأضواء عليها، وما نشر الصورة التي تظهره بالزي «الإسلامي» خلال زيارة إلى كينيا مسقط رأس أجداده في العام 2006، على ما زعمت مصادر «مجهولة» وزعت تلك الصورة على شبكة الإنترنت سوى أحد جوانب حملة قد تشهد المزيد من الإندفاع ضد «الأصول الإسلامية» لأوباما، رغم إجتهاده في تبيان مسيحيته البروتستانتية.
وإذا كان شرطاً اللون والعقيدة الدينية غير منصوص عليهما في الدستور الأميركي إلا أن العرف الرئاسي الأميركي يبقى أقوى من أي نص دستوري، ولنا في التجربة اليتيمة التي أوصلت الكاثوليكي جون إف كينيدي إلى الرئاسة في مطلع ستينات القرن الماضي ثم اغتياله بعد عامين، وفي مقتل شقيقه روبرت المرشح الأقوى في حملة عام 1968 مثال على «مناعة» المؤسسة الرئاسية الأميركية ضد من لا يتوفر فيهم الشرطان الآنفان.
وللتأكيد على حيوية «عنصر اللون» بثت وسائل إعلامية تقريراً الأسبوع الماضي تظهر فيه صورة للمرشح أوباما جرى فيها تدكين سواد الوجه وقورنت بالصورة الحقيقية لوجه المرشح ذي اللون الأسود «المعتدل». فيما توجهت أصابع الإتهام بنشر هذه الصورة و«الصورة الكينية» التي سبقتها إلى الحملة الإنتخابية للمرشحة كلينتون.
وإذا كانت «الصورة الرئاسية» باتت واضحة على المقلب الجمهوري بتأهل المرشح جون ماكين بعد تخطيه للعدد الكافي من أصوات المندوبين (1195) وإعلان مايك هوكابي الإنسحاب من السباق، فإن حسم السباق على المقلب الديمقراطي سوف يمتد حتى موعد المؤتمر الوطني للحزب في شهر آب (أغسطس) القادم. وستخضع عملية إختيار المرشح الديمقراطي لعملية ولادة قيصرية على أيدي «الناخبين الكبار» وهي المرة الأولى في تاريخ هذه السباقات التمهيدية التي تنتظر «جنس المولود» هل سيكون ذكراً (أوباما) أم أنثى (كلينتون).
على أن هذا «الحمل» الغامض الذي لم تستطع الآلة الإنتخابية من تحديده حتى الآن يحمل دلالات واضحة على الأزمة التي يتخبط فيها الحزب الديمقراطي وهي أزمة إنتاج القيادات الحزبية القادرة على التصدي للمد الجمهوري التسونامي الذي أحدثه زلزال المحافظين الجدد الجمهوريين منذ وصول رونالد ريغان إلى الرئاسة مطلع ثمانينات القرن الماضي، والذي لم يخرقه سوى الرئيس بيل كلينتون عندما «تسلل» إلى البيت الأبيض من خلال مقولته العبقرية الشهيرة «إنه الإقتصاد يا غبي» لكن الإختراق الديمقراطي لم يلبث أن إستسلم للقدر الجمهوري المحافظ المحمول على موجة المحافظين الجدد ممن أنتجتهم الحقبة الريغانية وتواكبت حركتهم مع إستيقاظ الكنيسة الإنجيلية وتصديها لدور إنتخابي فاعل منذ أواخر ثمانيات القرن الماضي.
أمام هذه الحقائق الإنتخابية التي لا تحتمل الكثير من المفاجآت يصبح سؤال السيدة الأولى السابقة للناخبين: «إذا رنّ جرس الهاتف عند الثالثة فجراً في البيت الأبيض، من تريدون للإجابة على الإتصال» في إشارة منها إلى خبرتها بشؤون البيت الرئاسي مع زوجها الرئيس الأسبق بيل كلينتون، يصبح هذا السؤال محفوفاً بالكثير من الشكوك، خصوصاً إذا أقدمت الإدارة الجمهورية المغادرة على توريث الإدارة القادمة حرباً جديدة في الشرق الأوسط، أو ربما في أميركا اللاتينية التي تشهد بعض دولها منذ سنوات «نهضة يسارية ثورية» (فنزويلا والإكوادور) وفي ظل إقبال الإقتصاد على مرحلة ركود باتت أقرب إلى أميركا من «حبل وريدها» الرئاسي في نوفمبر القادم.
في المؤتمر الصحفي الذي أعلن فيه الرئيس بوش عن «دعمه» للمرشح الجمهوري جون ماكين قبل أن يستضيفه على عشاء خاص في البيت الأبيض الأربعاء الماضي، أجاب الرئيس بوش على معظم أسئلة المراسلين بالتشديد على «القرارات القاسية» في الأمن والإقتصاد التي سيتوجب على ماكين إتخاذها خلف أبواب المكتب البيضاوي محذراً بأسلوب غير مباشر الناخبين الأميركيين الذين أنزلوه في إستطلاعات الرأي إلى أدنى درجات السلم من «أنه لن يكون هنا» (في البيت الأبيض) وعليهم التسليم للقيادة الجديدة للحزب الجمهوري ممثلة بجون ماكين الطيار السابق والمحارب القديم الذي وقع في الأسر الفيتنامي، و«الجاهز» لقيادة حروب أميركا المقبلة على جبهتي الأمن والإقتصاد اللتين باتتا متلازمتين.
ثمة إعتقاد واسع وقويّ بأن أميركا لم «تنضج» بعد لإحتمال «رئيس أسود» في البيت الأبيض، يرافقه إعتقاد لا يقل شأناً عن عدم إستعداد هذه البلاد لـ«حكم النساء» وهي التي أعطت المرأة حق التصويت في عشرينيات القرن الماضي متخلفة عن دول كثيرة في تلك الحقبة.
ثمة إعتقاد يتنامى، أيضاً مفاده أن الديمقراطية الأميركية سوف تضطر «غير باغية» أن تنزع عن وجهها أكثر من طلاء برّاق أمام التحديات الكبيرة التي تواجهها أمبراطوريتها العالمية الصاعدة. والإنتخابات الرئاسية بمرحلتيها التمهيدية والنهائية قد تؤرخ لحركة نكوص الديمقراطية وحقوق الإنسان في «عالم ما بعد 11 أيلول» الذي ردمت فيه هوة المحيط وأشعرت الأميركيين أن «عالمهم» لم يعد معزولاً عن مشاكل الدنيا التي أسهمت بلادهم في خلق العديد منها، بل في أخطرها على الإطلاق وهي مشكلة الإرهاب الآخذ في التحوّل إلى «عقيدة» لدى شعوب كثيرة.
Leave a Reply