إنها حرب تحت الرماد!
أحداث ومواقف متلاحقة شهدتها الأيام القليلة الماضية، تشي بأنّ ثمة تغيير في تكتيكات الحرب الغربية ضد محور مكافحة الإرهاب، توائم بين الحرب الناعمة ضد روسيا، وبين الضغط المباشر على سوريا و«حزب الله»، وبطبيعة الحال إيران.
الحدث الأول، تمثل في التظاهرات التي شهدتها موسكو وبعض المدن الروسية، والتي دعت إليها منظمات من «المجتمع المدني»، التي لا تخفى ارتباطاتها بالسفارة الأميركية، ضد ما تسمّيه «فساداً» في الدولة الروسية.
الهدف كان واضحاً منذ البداية، وهو حكم الرئيس فلاديمير بوتين، الذي أظهرت آخر استطلاعات الرأي، حصوله على تأييد 80 بالمئة من المواطنين الروس، بما يعجّل في حسم قراره بالترشّح لولاية جديدة، في انتخابات العام 2018.
هذا التأييد الشعبي يرتكز، من دون أدنى شك، على جملة عناصر في سياسات بوتين، سواء الداخلية (مكافحة الفساد، تطوير الاقتصاد، تعزيز الشعور الوطني)، أو الخارجية (الحرب على الإرهاب في سوريا، تحدي العقوبات الغربية، استعادة مكانة روسيا على الساحة الدولية).
انطلاقاً من ذلك، كان لا بد من العمل على تقويض صورة الرئيس، تارة من خلال اختلاق «الفضائح» التي ثبتت فبركتها من قبل الآلة الإعلامية المدعومة من الغرب، وطوراً من خلال استهداف الدور الروسي بشكل مباشر سواء في روسيا أو أوكرانيا، وأخيراً من خلال التلويح بـ«ربيع روسي» يحاكي «الربيع العربي» الذي انقلب خريفاً تكفيرياً دامياً.
من المؤكد أن القيادة في روسيا متنبّهة بشكل جدّي، لمثل هذه المحاولات، وقد نجحت، على ما يبدو، في احتواء الحملة الغربية على ما اسمته الآلة الإعلامية للغرب «قمعاً» للحريات، حيث جهدت الحكومة الروسية وديبلوماسيتها الصارمة في الرد على الكثير من الادعاءات، إن لجهة التعامل مع المتظاهرين بأساليب أقل عنفاً من تلك المعتمدة في الغرب نفسه (فرنسا، اليونان، الولايات المتحدة)، كما صرّح بذلك الرئيس فلاديمير بوتين، أو عبر وضع الأمور في نصابها، من خلال إظهار سبب استخدام «القمع» المزعوم، تجاه محتجين، زعيمهم ضالع في الفساد، وتحرّكهم غير مرخّص.
عصا الإرهاب
الحدث الثاني، بدا مكمّلاً للأول، إذ لا يمكن وضع التفجير الذي ضرب مترو الأنفاق في مدينة سان بطرسبورغ، سوى في سياق الضغط على الرئيس فلاديمير بوتين من جانبين أساسيين، الأول هو محاولة تقويض الجبهة الداخلية لروسيا، التي ظلت حتى الأمس القريب بمنأى عن العمليات الإرهابية، نتيجة للإجراءات الصارمة التي تتخذها الأجهزة الأمنية الروسية، والثاني هو تصوير الأمر على أن ما جرى في عاصمة القياصرة هو انتقام من روسيا على تدخلها في سوريا.
ولا يغيّر في الأمر أن يكون منفذو هجوم سان بطرسبورغ من «جهاديي» تنظيمي «داعش» أو «القاعدة»، أو من القوميين المتعصبين، الذين خرجوا من غياهب الفاشية، بعد الأزمة في اوكرانيا، طالما أن لعبة الغرب باتت «على المكشوف»، وطالما أن تلك الجماعات، إسلامية كانت أو قومية، قد ثبتت صفتها كـ«أداة» بيد قوى كبرى من أميركيين وغير أميركيين.
وعلى العموم، فإن الثبات الانفعالي الروسي، تجاه أحداث سان بطرسبورغ من جهة، والرد السريع، أمنياً وسياسياً، على العمل الإرهابي، ربما أظهر للواقفين خلف هذا التفجير، أن احداث ثغرات أمنية لتحقيق أهداف سياسية أمر دونه عوائق كثيرة في روسيا، التي أثبتت خلال الأعوام الماضية، قدرة على ضبط أمنها، بشكل فعال، وهو ما أثمر تراجعاً في عدد العمليات الإرهابية وحجمها قياساً لما كانت عليه الحال قبل سبعة أعوام، بالرغم من كونها منخرطة في حربين ضروسين، بشكل أو بآخر، الأولى في سوريا والثانية في أوكرانيا.
كيماوي خان شيخون
على الجانب الآخر، يأتي الحدث الثالث في سوريا، حيث عاد الغرب إلى التلطي خلف شعارات «إنسانية»، لتغيير الحقائق على أرض المعركة، وهو ما تبدّى في الحملة الشرسة التي بدأت تخاض ضد روسيا وسوريا، على خلفية حادث «كيميائي»، لا تزال ملابساته غامضة، ولكن الآلة الإعلامية، والسياسية في مجلس الأمن الدولي وسواه، سارعت إلى اتهام الجيش السوري بالوقوف خلفها.
المفارقة في هذا السياق، أن الهجوم الكيماوي المزعوم، يأتي في مرحلة تحولات ميدانية واستراتيجية، من جانب المحور المقاوم للإرهاب في سوريا، بعد سلسلة انتصارات شهدها الميدان، لا سيما بعد حلب الكبرى، ما يجعل من السذاجة الاقتناع بأن هذا المحور ذاته، يمكن أن يفكر في عمل من هذا القبيل، سيؤلب عليه المجتمع الدولي بأسره، بما يقوّض الانتصارات التي تحققت.
والمفارقة الثانية، أن الحديث عن استخدام الجيش السوري للسلاح الكيماوي، لم تؤكده حتى الآن، أية جهة مستقلة، بما في ذلك منظمة الحظر الكيماوي، التي أشرفت على تدمير المخزون الكيماوي الذي كانت تمتلكه دمشق، بعد واقعة الغوطة الشرقية، في العام 2013، والتي كادت تفتح الباب أمام ضربة عسكرية أميركية، سرعان ما أحبطتها روسيا، بدهاء ديبلوماسي مثير.
تهديدات غامضة
ولا يمكن فهم هذا الهجوم المتجدد من قبل الغرب، على نظام الرئيس بشار الأسد، أو بالأحرى لا يمكن تفسير ملابسات «الهجوم الكيماوي» المزعوم، من دون التمعّن في المواقف الدولية الأخيرة، ولا سيما بعد اعلان الولايات المتحدة أن رحيل الرئيس بشار الأسد ليس أولية في الحل السوري، فيما يعد انعطافة كبرى في الموقف الأميركي، وهو ما عارضته الكثير من العواصم، الداعمة للمجموعات المسلحة، حتى جاءت أحداث خان شيخون، كطوق نجاة للرئيس دونالد ترامب، للقول إنه «بدّل رأيه»!
وعلى أثر ذلك، خرج نائب الرئيس الأميركي مايك بنس، ليعلن أن «كل الخيارات مطروحة» أمام الولايات المتحدة، للرد على الهجمات الكيماوية في إدلب.
ولا يمكن أيضاً فهم حقيقة ما يجري، من دون التوقف عند النقطة الرابعة، من سلسلة الأحداث والمواقف المستجدة، والمتمثلة في تصريح عدائي آخر لدونالد ترامب، تحدث فيه عن تغيير في السياسات الأميركية، قائلاً «سترون ما سنفعله في سياق الرد على حزب الله في سوريا»!
هذا الموقف العدائي من قبل ترامب، يبدو أنه سيشكل عنواناً للسياسات العدوانية الأميركية تجاه سوريا وحلفائها، من روسيا وإيران، وصولاً إلى «حزب الله»، الذي لا شك أنه عاد إلى دائرة الاستهداف الخارجي، والتحريض الداخلي، وهو ما عكسته رسالة الرؤساء السابقين، أمين الجميِّل وميشال سليمان وفؤاد السنيورة ونجيب ميقاتي وتمام سلام، إلى القمة العربية، والتي جاء فيها أن «لبنان غير موافق على تدخل حزب الله في سوريا أو في العراق واليمن».
على هذا النحو، تبدو المواجهة بين الغرب، متمثلاً بالولايات المتحدة، والمحور المقاوم للمشروع الأميركي، والمكافح للإرهاب في آن واحد، قد انتقلت إلى مرحلة متقدمة، عنوانها العريض تكثيف الضغوط السياسية والعسكرية والأمنية من ناحية، وشن «حرب ناعمة»، عبر أدوات داخلية، تبدأ من جماعة أليكسي نافالني في روسيا، وتصل إلى «الرؤساء السابقين» في لبنان!
Leave a Reply